اعتادت الدول الكبرى على تبادل الرسائل الساخنة عبر استعراض عوامل القوة، وأهمها العسكرية، ورغم التطور الهائل الذى حصل على مستوى العالم، والذى أدى إلى استحداث وسائل ضغط دولية متعددة، لاسيما من خلال العقوبات المالية والاقتصادية، أو عبر فرض العزلة، أو الحصار السياسي .
فإن دبلوماسية المناورات العسكرية عادة ما تعبر عن امتعاض من موقف معين، أو عن احتجاج على تصرفات دولية غير مرضية، فتلجأ الدولة أو الدول غير الراضية عن الموقف إلى القيام بعمل للدلالة على عدم الرضا، أو لتوضيح نيتها كونها تملك مقومات للمواجهة، إذا ما تصاعد الموقف، أو استمرت التصرفات ذاتها.
وفيما بمكن وصفه بأكبر سباق لاستعراض القوة والنفوذ فى العالم شهد حوض البحر المتوسط، وبحر الصين، والبحر الأسود خلال الأيام القليلة الماضية أضخم مناورات عسكرية بين تكتلات دولية عظمى، فجاءت المناورات المشتركة بين الصين وروسيا تحت اسم "بحر التعاون" واستمرت 10أيام ردا على مناورات الولايات المتحدة المشتركة مع حلف الناتو، وفى الوقت ذاته اعتبر البعض المناورات اليابانية - الفليبينية المشتركة ردا على توسع النفوذ الصينى فى منطقة بحر الصين والنفوذ الروسى فى أوكرانيا.
وأكد خبراء عسكريون ومحللون دوليون أن تلك المناورات تشير إلى توتر فى العلاقات بين الدول الكبرى، أو بين "الشرق" و"الغرب"، وفقاً لما يتضح من خلال نوعيتها، ومكانِ حدوثها، ووصفوها بأنها رسائل ساخنة بين الدول الكبرى.
أبرز هذه المناورات حدثت على خلفية الاضطراب الهائل الذى تشهده العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها – خصوصاً اليابان – من جهة، والصين وروسيا من جهةٍ ثانية، والتوتر بين واشنطن وموسكو بسبب أحداث أوكرانيا وسوريا، إضافة إلى التوتر بين واشنطن وبكين بسبب التوسع الأمريكى فى جنوب شرق آسيا، الذى أسهم فى تعزيز العلاقات بين روسيا والصين إلى مستوى متقدم، لم تشهده من قبل، حتى أيام الحرب الباردة.
بينما تسعى الصين للرد على الاستفزازات الأمريكية – اليابانية من خلال تطوير علاقاتها مع روسيا، والتمدد فى مناطق جغرافية جديدة لإزعاج خصومها، وهى للمرة الأولى فى تاريخها تجرى مفاوضات مع دولة جيبوتى لإقامة قاعدة عسكرية ثابتة على أراضيها، قريبة من مناطق نفوذها الإفريقية، ومطلة على البحر الأحمر الذى يتمتع بمكانة جيوسياسية متقدمة فى منطقة الشرق الأوسط والقرن الإفريقي.
أما روسيا، فلا توفر أى فرصة ممكنة لإزعاج الولايات المتحدة، وهى تجهد للتشويش على المفاوضات التى تجرى بين الغرب وإيران، وتقدم مغريات جديدة للطموحات الإيرانية، من خلال رفع الحظر عن تسليمها صواريخ إس – 300 المتطورة، وتحاول إغراء تركيا، برشوة الغاز الوازنة، عن طريق تقديم كميات هائلة من الغاز، مقابل موافقة أنقرة على تمرير خط لتصدير الغاز الروسى عبر مياهها الإقليمية من دون المرور بالأراضى الأوكرانية.
كما أجرت الولايات المتحدة مناورات عسكرية فى البحر الأسود على مقربة من جزيرة القرم، فى شهر ابريل الماضي، وردت روسيا بمناورات برية فى منطقة سنفاروبل القريبة، شاركت فيها صواريخ تحمل رءوساً نووية، وساهمت واشنطن فى ترتيب مناورات عسكرية مشتركة بين حليفتيها اليابان والفلبين فى 11مايو الجارى، فى مياه بحر الصين الجنوبي، ما اعتبره بعض المحللين تحدياً للصين التى تعتبر جزر المنطقة ملكاً لها، علماً أن اليابان والفلبين على عداوة تاريخية منذ الحرب العالمية الثانية، وقد نجحت واشنطن فى تسوية الخلافات بينهما مؤخراً.
وفى ذات السياق، أجرت سفن حربية يابانية وفلبينية، الأسبوع الماضى، مناورات مشتركة فى جنوب بحر الصين، هى الأولى من نوعها بين الارخبيلين المستنفرين لمواجهة الطموحات العسكرية الصينية. وتجرى هذه المناورات البحرية التى من المقرر أن تستمر يوما واحدا، وتكرس التحالف بين البلدين العدوين فى الحرب العالمية الثانية، على بعد أقل من 300 كلم عن شعاب مرجانية تسيطر عليها الصين لكن الفيلبين تطالب بها.
وتهدف هذه المناورات كما أعلن رسميا إلى تعزيز العمل التنسيق بين بحريتى البلدين، لكن خبراء يقولون إنها تشكل اشارة قوية موجهة إلى الصين. واعتبر مايكل تاسيك الاستاذ فى جامعة ستيفن اف. اوستن فى تكساس، أن هذه المناورات "تؤكد أن جيران الصين فى منطقة المحيط الهادئ بدأوا بالتحالف ضدها"، وكتب ان "اليابان والفيلبين وفيتنام وبلدانا أخرى حتى الهند، مهددة بسلوك الصين".
ويعتبر جنوب بحر الصين تقاطع طرق بحرية حيوية للتجارة العالمية، وتختزن أعماقه احتياطات هائلة من المحروقات. وتطالب فيتنام وماليزيا والفيلبين وسلطنة بروناى بالسيادة على الأجزاء الإستراتيجية لهذا البحر، لكن بكين تطالب بالسيادة على كامل هذه الأجزاء تقريبا وتستعرض قوتها، مما يفجر الهواجس فى المنطقة وفى سواها، وتستند بكين لإعلان سيادتها على كامل الأجزاء، إلى خرائط تعود إلى الأربعينيات.
لم يتأخر الرد الصينى – الروسى على تلك الوقائع المهمة، فقد باشرت بحرية البلدين بمناورات عسكرية هى الأولى من نوعها فى البحر الأبيض المتوسط، وللمرة الأولى تنتقل "سفينة ليني"،"و سفينة يفانغ " و"سفينة يشان" الصينية من خليج عدن للمشاركة فى مناورات عسكرية فى البحر الابيض المتوسط. وبالرغم من ان التدريبات قد تم الاتفاق عليها فى وقت مبكر من نهاية العام الماضي، وأعلن الجيش الصينى بوضوح أن هذه المناورات البحرية المشتركة ليست موجهة ضد أى بلد ثالث، كما ليست لها أى علاقة بالوضع المتوتر فى ذلك الإقليم إلا أن الرأى العام العالمى يرى أن تلك المناورات تجسد تعبير البلدين عن استيائهما الشديد من المناورات العسكرية المشتركة بين أمريكا وحلف الناتو فى الفناء الخلفى للبحر الأبيض المتوسط، وتنفيذ الولايات المتحدة استراتيجية "إعادة التوازن فى آسيا والمحيط الهادئ"، ومطاردة البحرية الأمريكية المفسدين فى آسيا والمحيط الهادئ، مما يدل على قدرة روسيا على التعامل مع أمريكا دوليا.
وأكد خبراء عسكريون دوليون، أن الممارسة تظهر التعامل الصينى والروسى معا مع التهديدات والتحديات الجديدة، والعزم الراسخ والإرادة فى الحفاظ على الاستقرار الاقليمي، ويظهر للعالم مستوى الثقة المتبادلة والشراكة الاستراتيجية الثنائية والتعاون الاستراتيجى الجديد بين البلدين. كما رأى البعض ان إعلان أمريكا واليابان فى واشنطن عن توقيع اتفاق التعاون العسكرى لمواجهة التهديدات الأمنية فى آسيا والمحيط الهادئ فى الآونة الأخيرة، يمكن يكون وراء المناورات العسكرية التى تجريها الصين وروسيا فى البحر الأبيض المتوسط.
وبالرغم من عدم اعتراف الولايات المتحدة وروسيا بأسباب نشوب حرب باردة جديدة، إلا أن الوضع فى أوكرانيا ادى الى فرض امريكا والاتحاد الأوروبى عقوبات ضد عدد من المؤسسات المالية والطاقة والعسكرية الروسية الذى لا يؤثر فقط على الساحة السياسية فى "أوراسيا"، وإنما يؤثر ايضا على اعادة بناء النظام العالمي. كما تواجه الصين تهديدات وضغوطات امريكية فى ما يخص تنفيذ استراتيجية اعادة التوازن فى آسيا والمحيط الهادئ، وفى هذا السياق، فإن ترقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة وبشكل كبير بين البلدين، هو شيء طبيعى جدا.
فى المقابل فقد وصلت العلاقات الروسية ـ الصينية الى مستوى عال بلغ ذروته فى عام 2014، حيث حققت قفزة تنموية كبرى، والتقى شى جين بينغ وبوتين خمس مرات، وتوصل البلدان الى توافق فى الآراء بشأن سلسلة من الصفقات الكبرى: مشروع التعاون فى الغاز الطبيعى بقيمة 400 مليار دولار، اتفاقية لتبادل العملات بين الصين وروسيا بقيمة 150 مليار، حجم التبادل التجارى بين البلدين سيتجاوز 100 مليار دولار فى عام 2015. بالاضافة الى ذلك، يتعاون الجانبان فى استخدام السلمية للطاقة النووية، وتصنيع الطائرات الكبيرة، والملاحة الفضائية، ورحلات الفضاء البشرية وغيرها من المجالات ذات التقنية العالية.
ويمكن القول أن التعاون بين الصين وروسيا اللتين تعتبران القوى الكبرى فى "اوراسيا" يفضى الى السلام والأمن فى شمال شرق آسيا والعالم بأسره، ويمكن تمديد فترة فرصة الإستراتيجية الصينية، وأيضا تساعد على تشجيع على العمل معا لبناء "الحزام والطريق".
يشار إلى أن العلاقات الدبلوماسية بين الصين والاتحاد السوفيتى قد بدأت فى الـثانى من أكتوبر عام 1949م، بينما فى أغسطس 1991، تفكك الاتحاد السوفيتي، لكن بعدها بعام شهدت العلاقات تحسنًا.
واتخذت العلاقات الروسية الصينية عدة أبعاد أولها موقف البلدين من السياسة الأمريكية ورفضهما لهيمنة قوة واحدة على النظام العالمي، ومعارضة مشروع الدرع المضادة للصواريخ الذى تقيمه أمريكا بدعوى حماية أراضيها من هجمات محتملة قد تشنّها ما تطلق عليه “الدول المارقة” مثل إيران وكوريا الشمالية.
وشكل عام 2001م نقطة انطلاق فى العلاقات الاستراتيجية بين الصين وروسيا، وقع خلالها القادة الصينيون والروس أكثر من 50 اتفاقية ثنائية إضافية، فى حين سجل عام 2009م أعلى مستويات فى العلاقة بينهما فى مجال الطاقة، وتوسيع التجارة ومبيعات الأسلحة الروسية إلى الصين، والتعاون الدبلوماسى حول الشرق الأوسط وغيرها من القضايا.
تهدف كل من الصين وروسيا فى علاقاتهما الحد من الهيمنة الأمريكية من خلال دور أقوى لمجلس الأمن الدولي، الذى تملك موسكو وبكين فيه حق النقض، فى التعامل مع القضايا الأمنية الملحة.
فضلًا عن لعبهما دورًا أكبر فى عالم متعدد القطبية تستطيعان فيه حماية مصالحهما ومصالح الدول الصديقة لهما، حتى وإن كانت معادية للغرب، والتقليل أيضًا من هيمنة الولايات المتحدة والغرب للأقليات تحت دعاوى حقوق الإنسان وحق تقرير المصير والتى نتج عنها اندلاع العديد من الحروب الأهلية.
رابط دائم: