رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

الإعلام الغائب

بقلم أحمد ناجى قمحة - رئيس وحدة دراسات الرأي العام والإعلام بمركز الأهرام للدراسات
لم يعد خافيًا أن الدولة المصرية تعاني أزمة كبيرة في إعلامها المقروء والمسموع والمرئي، أزمة بدأت في سنوات ما قبل الخامس والعشرين من يناير 2011،

وكرستها بشدة أحداث الثورة ومتلاحقاتها التي فرضت فوضى إعلامية لا تخطئها عين، وقادت إلى إشكاليات وخيمة في المنتج الإعلامي باتت تهدد بقوة المنظومة الإعلامية، ولم يتمكن دستور 2014 الذي كان أحد ثمار خريطة المستقبل لثورة 30 يونيو 2013 وما تضمنه من مواد وبنود لتنظيم الإعلام والصحافة من معالجة هذه الإشكاليات، التي باتت تعصف بمستقبل الإعلام لأسباب مختلفة.

وبغض النظر عن الإشكاليات المعيقة لعمل اللجنة المنوط بها الإنتهاء من قوانين تنظيم الإعلام والصحافة، فإن ما يهمنا أن نتعرف على واقع أزمة الإعلام.

المال والإعلام

تتلخص الأزمة بتبسيط شديد في المقام الأول في الموارد اللازمة للصرف على الإعلام، وهي ستظل المحور الرئيسي الذي تدور حوله باقي الإشكاليات. فقبل ثورة الخامس والعشرين من يناير وحتى الآن، كانت الدولة ملتزمة بالصرف على المؤسسات الصحفية القومية وعلى اتحاد الإذاعة والتليفزيون. هذا، في الوقت الذي بدأت فيه الدولة السماح بتغلغل رجال الأعمال لقطاع الإعلام. ومع تردي وترهل وضع المؤسسات الصحفية القومية واتحاد الإذاعة والتليفزيون اقتصاديًا، والمغريات المقدمة من صحف وقنوات رجال الأعمال، فقد أدى ذلك لظاهرة الطيور المهاجرة. حيث تركت القواعد الأصيلة مؤسساتها تحت وطأة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية متجهة صوب الصحف والقنوات الخاصة برجال الأعمال، محملة بإحباطات هيمنة شلل بعينها والمقربين منها على مقدرات الأمور في هذه المؤسسات، وانعدام معايير واضحة للترقي وتقلد مناصب أعلى إلا لذوي الحظوة في مداهنة السلطة، ومؤشرات للفساد استشرت في ربوع هذه المؤسسات دون أن تجد من يوقفها ويعيد تصويب الأمور قبل أن تصل إلى نقطة اللاعودة. أسهمت هذه القيادات في وضع الصحف والقنوات الخاصة في وضع الريادة ووصل الأمر لصحيفة أو إثنتين إلى الدخول في منافسة مباشرة مع كبرى المؤسسات الصحفية، وكانت الكارثة في إتحاد الإذاعة والتليفزيون الذي بات واضحًا أنه عاجز تمامًا عن المنافسة في هذا التوقيت وعدم قدرته على ملاحقة التطورات الجارية حوله في القنوات الخاصة.

إستعرض الإعلام الخاص عضلاته أمام المؤسسات القومية الحاملة للإعلام المصري، ولم يكتف بإستقطاب كبار كتابها وصحفييها وإعلامييها ومعديها ومصوريها ومخرجيها، ولكنه شرع في ضربها في الصميم، بتأثيث وكالاته الإعلانية الخاصة، تلك الوكالات التي نافست على استحياء في البداية وكالة الأهرام للإعلان والقطاع الاقتصادي في اتحاد الإذاعة والتليفزيون، ثم وجهت لها مع إندلاع ثورة يناير الضربات القاضية، وباتت إحدى الوكالات الإعلانية الخاصة هي المهيمنة على السوق الإعلانية في القنوات والصحف الخاصة، ووصل بأخرى هي الأحدث على الساحة المصرية إلى السيطرة حتى على الإعلانات في قنوات النيل المتخصصة وعدد كبير من الإذاعات.

وتكمن الخطورة هنا، في أن المتحكم في المال والإعلان يتحكم في المنتج الإعلامي، يتحكم في المضمون، يمنح ويمنع، يمارس ما لا يدعيه ويدعي ما لا يمارسه، يفرض سيطرته ويعرض ما يرغبه على قنواته ويمنع ما لا يتوافق معه، والمبرر موجود : "لا توجد إعلانات على هذا البرنامج ومذيعه". وكم من حالات لإعلاميين جماهيريين رصدت بعد ثورة 30 يونيو تم استبعادهم ووقف برامجهم بإستخدام هذا المبرر، وكم من حالات مفروضة لأن وكالات الإعلانات تحميها وهي لا يشاهدها إلا من يحرص على إستمرارها في توصيل رسائل معينة في برامجها، رسائل باتت مرفوضة من القطاعات الأكبر من المصريين التي انصرفت عن مشاهدتها. تكمن الخطورة هنا، في أن يتوهم أحد رجال الأعمال أنه قادر على لي ذراع الدولة عبر آلاته الإعلامية المتعددة، وأنه قادر على إبتزازها والسيطرة على مقدرات الأمور بها، ناهيك عن إستخدامه كل أدواته لمهاجمة الدولة ومؤسساتها والتشكيك في مصداقيتها ونياتها.

تضخم الذات

ما بين صناع 25 يناير وصناع 30 يونيو من الإعلاميين، باتت هناك مباراة واضحة أمام الرأي العام تعكس حالة من تضخم الذات، حالة أوصلت البعض من الإعلاميين إلى تصور أنه صانع الثورة الأولى والثانية، والبعض الآخر إلى تصور أنه صانع الأولى وأنها الثورة الوحيدة في التاريخ المصري المعاصر، والبعض الثالث إلى تصور أنه صانع الثانية التي تنفي تماماً الأولى. حالة لم تعد تخدم الدولة المصرية، حالة تخدم فقط الإعلاميين من كل تصور، حالة قادتهم إلى صراع واضح يحاولون من خلاله بشتى الطرق نفي أي من الموجودين في المعسكر الآخر، وهذا الصراع تحول مع الوقت إلى تضخم كبير في تصور الذات.

لم يحاول أي من المنتمين لكل تصور، افتراض أن المصريين هم صناع الثورتين، لم يحاول أحد أن يفكر ماذا لو لم يتحرك المصريون في الثورة الأولى؟، المصريون تحركوا مطالبين بتغيير الوزارة وإلغاء نتيجة الانتخابات الكارثية لعام 2010 وذلك أيام 25 و26 و27 يناير، ولما لم تتم الاستجابة لمطالبهم وتم الاستخفاف بها ومعالجتها بصورة متأخرة ومصحوبة بقرارات خاطئة يوم 28 يناير كان نزولهم الكبير. هم أيضًا لم يحاولوا التفكير، هل كان يمكن ألا ينزل المصريون في 30 يونيو وذلك في ظل الحشود الكبيرة للجماعة الإرهابية وتصاعد تهديداتها؟، نعم كان يمكن أن يحدث ذلك، ولكن المصريين تحركوا لأنهم أدركوا أن بلدهم يضيع وتنزف تحت محاولات فرض الحكم الثيوقراطي، المصريون تحركوا لأنهم تأكدوا أن ثورتهم الأولى للتغيير لم تأت إلا بالخيار الأسوأ. المصريون تحركوا في المرتين لأنهم مصريون، لهم معادلة خاصة تتجاهلونها، نعم قد تكونوا احد مكونات هذه المعادلة ولكنكم لستم الكل.

تكمن الخطورة هنا، في أن كل منتم لكل من التصورات السابقة يتصور في نفسه القائد التاريخي، وأنه القادر على الحشد لمقولاته وتصوراته الذاتية، وأنه بمقدوره دون غيره أن يكون العنصر الحاكم في تحريك الجماهير، وهو ما يقوده شيئًا فشيئًا إلى الابتعاد عن المواطن الحقيقي متصورًا أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، وينتهي به الأمر مخاطبًا فقط مريديه، غير مؤثر في توجهات وجدان المصريين ولا تحديد أجندة أولوياتهم. ويكون هذا التضخم في تصور الذات أكثر خطورة عندما يمارس في ظل حماية المال والإعلان، أو عندما يكون من يمارسه متصورًا أنه بذلك يرضي القيادة السياسية بطريق أو بآخر. وهو أمر قاد بطريق أو بآخر إلى التشكيك من جانب فريق في مفهوم الأمن القومي بل والتساؤل ماذا تعني الوطنية؟، وإلى إعادة مهاجمة مؤسسات الدولة. وقاد من جهة أخرى فريقًا آخر ليلصق كل شيء بالأمن القومي والوطنية ويمجد في مؤسسات الدولة، بما أدى في النهاية إلى تشتيت وعي المواطن، وتشتيت الوعي إحدى الآليات المهمة لتغييب عقل أمة في مرحلة البناء.

تلاحم عنصر سيطرة المال والإعلان على الإعلام مع عنصر التضخم الذاتي الشديد لبعض الإعلاميين، لم يقدنا إلا إلى إعلام يبحث عن المصلحة الشخصية لصاحب رأس المال والإعلان من جهة والإعلامي من جهة أخرى، أو إلى إعلام يبحث عن التقرب من القيادة السياسية، كل ذلك على حساب الوطن والمواطن بحثا بعد 30 يونيو عن إعلام وطني يقدم ما يبعث على التفاؤل في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أو عن إعلام يعكس الثقافة الوطنية والقيم الأصيلة، فلم يجدا إلا إعلامًا محبطًا، تتنازعه المصالح الرأسمالية والأهواء الشخصية التطلعية والذاتيات المنتفخة، لا يقدم تثقيفًا أو يشجع على المسئولية الاجتماعية التضامنية، وإنما يناقش قضايا ومحاور شبه يومية ومتكررة في كل برامج التوك شو باختلاف المذيع، فما أن تقلب من قناة لأخرى ستجد نفس القضية تناقش بضيوف مختلفين وقد يكونوا متكررين، ولم لا والمتحكم واحد، هو صاحب المال والوكالة الإعلانية الذي يريد فرض هذه الخريطة القيمية المختلة على المجتمع المصري.

تضاد الرؤى

في هذه الأجواء، تولى السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي حكم البلاد، وعلى عكس ما هو شائع من أن الإعلام كان مساندًا للسيسي وأنه انقلب عليه، الإعلام الخاص لم يكن يومًا مساندًا للرجل ومن ينسى أن الإعلام الخاص هو أول من قلل من الإقبال في الإنتخابات الرئاسية بناء على مشاهدات لكادرات 16 كاميرا في 16 لجنة، متناسياً أنه لا يوجد لديه إمكان تغطية اللجان على مستوى الجمهورية وعدم توافر مندوبين له في كل اللجان على مستوى الجمهورية، وأن هذه الطريقة في العرض التي وصلت لدرجة الصراخ كانت إحدى الأدوات التي استخدمتها الجماعة الإرهابية والدول المعادية لثورة 30 يونيو في الإشارة لقلة الإقبال ومن ثم محاولة التشكيك في نسب المشاركة. والسيسي بحكم خبرته ومجال عمله، يبدو أنه كان كاشفًا لهذه المخاطر التي ذكرنا إثنين منها وهناك الكثير. لذا، فقد ركز منذ إعلان ترشحه على الإعلام والتقى صحفيين وإعلاميين ومثقفين لأكثر من مرة، وعرض خلال هذه اللقاءات لرؤيته للإعلام الذي ينبغي أن يقوم على المهنية والمصداقية ومراعاة الله في نقل ما يحدث لمصلحة الوطن.

ومنذ أن تولى السيسي الحكم، كان الإعلاميون والصحفيون أكثر الفئات التي حرص على الإلتقاء بهم وحتى وقتنا هذا، وكانت اللقاءات لا تقل عن ثلاث ساعات وامتد أحدها لخمس ساعات، حاول السيسي خلالها أن ينقل لهم رؤيته للإعلام المصري وما ينبغي أن يكون عليه وكيف يبنى وأنه حريص على عدم التدخل في الإعلام أو السيطرة عليه، إضافة إلى ذلك فلم يخل حديث أو حوار أو أحد اللقاءات الجماهيرية الثلاثة التي عقدها السيسي عبر التليفزيون الرسمي للدولة دون الإشارة للإعلام ودوره، وفيما يلي إشارات لذلك :-

• في خطابه بجامعة القاهرة في سبتمبر 2014، حاول السيسي أن يطرح رؤيته، فأشار إلى أنه يرغب في "مدرسة وطنية مصرية في الإعلام"، تكون الرائدة في الإقليم بمراعاتها للمهنية والموضوعية والمصداقية.

• وفي لقائه وزراء الشباب والرياضة العرب في نوفمبر 2014، أشار السيسي إلى أهمية دور الإعلام في إبراز الجوانب الإيجابية جنباً إلى جنب مع السلبيات، موضحاً محورية دور الإعلام وأهمية تناول كل الموضوعات بمنظور شامل يأخذ في الاعتبار كل الأبعاد، مشددًا على أن الإعلام ليس مطالبًا بأن يكون أداة من أدوات الدولة وإنما أن يعمل بحيادية وموضوعية ترسخ آداب المهنة وتقدم رسالة إعلامية سامية.

• وفي حديثه مع قناة "سكاي نيوز العربية" في يناير 2015، أوضح السيسي أن الإعلام المصري لا يستطيع أحد أن يعتبره موجهًا ضد شخص بعينه، مشددًا أن الإعلام المصري يعمل باستقلالية كاملة.

• وفي كلمته أمام الندوة التثقيفية الـ 17 للقوات المسلحة في مايو 2015، أوضح السيسي أن الإعلام المصري يطرح على المواطنين قضايا لا تليق.

• وفي حديثه الشهري الثالث، أكد السيسي أن البرامج التي يدعي البعض أنها "كدة وكدة" - في إشارة إلى أنها موجهة- فأقول لا أحد يوجه الإعلام، وأنا أريد أن تقدم البرامج قيما حسنة ومبادئ وليس شيئا آخر.

إذا كانت هذه هي رؤية السيسي للإعلام ودوره بصورة مقتضبة، فماذا قدم الإعلام في المقابل؟، إعلام تعمد تغييب المواطنيين وتصدير الإشكاليات وتحميلهم بالإحباط وإخفاء الإيجابيات والتشكيك في أي شيء وكل شيء، وصولاً إلى المطالبة بالبدء في إجراءات تصعيدية تبدأ بالإضراب - كالإضراب الذي دعى إليه أحد أعضاء مجلس نقابة الصحفيين اعتراضًا على ما اسماه غياب حرية الإعلام -، وذلك تمهيداً لتظاهرات لعزل الرئيس، إستجابة لدعوات حركات وقوى محظورة، وتلبية لرغبات وتوجيهات أصحاب المال والإعلان. كل ذلك تحت مبرر ساقه أحد الإعلاميين :"إن أغلب الإعلاميين، وأنا من بينهم، سبق وأن حملنا مرسي مسئولية إخفاق حكومته". ثم تساءل مستنكرا: "فلماذا لم يتم تحميل السيسي نفس هذه المسئوليات خاصة هو من يتحمل هذا العبء بصفته الذي يشكل الحكومة؟".

الحرية ليست غائبة، الغائب هو الإعلام، الغائب هو التنظيم، وعلى المدعين بغياب الحرية إدراك أن الحرية مسئولية وأن الكلمة أمانة. الغائب هو أن نبحث عن تنظيم لمؤسساتنا الإعلامية بعيداً عن صراعات لجان لم تف بتعهداتها، قبل أن تغرق بنا وبهم وبكم. الغائب ليس الحريات، بل تخطي الحريات لمساحات أبعد تسعى إلى هدم المنظومة القيمية للمواطن الذي هو أولى أولويات الأمن القومي للوطن. الغائب ليس الحريات، بل أن نراعي الله والوطن في رسالتنا الإعلامية الموجهة للمواطن من أجل أن يكون السند في معركة البناء بدلاً من تحويله لكرة من اللهب قد تحرق الجميع. الغائب هو أن نؤسس لإعلام ينقذ الوطن.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق