رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

«شيزوفرنيا» لندن فى شارع الفقراء...والأغنياء !

‎لندن: منال لطفى
الجانب الغنى لشارع بورتلاند لندن- والجانب الفقير من الشارع
‎رحبت بى صديقتى فى الجامعة قبل نحو 10 سنوات عندما قررنا أن نؤجر مكانا قريبا من جامعة لندن حيث كنا ندرس قائلة: "مرحبا بك فى برلين الشرقية".

 كانت تشير إلى المدخل الشمالى من شارع "بورتلاند"غرب لندن فهو يضم بعض أفقر الفقراء فى لندن، ولا يفصله عن المدخل الجنوبى أو "برلين الغربية" كما كان البعض يسميه والذى يضم بعض أغنى الاغنياء فى لندن، غير "إشارة مرور" وضعت كى تفصل على الأرض ماديا وبدون أى لبس بين عالمين مختلفين تماما من حيث التركيبة السكانية والانتماء الطبقى والمستوى الاقتصادي، لكنهما يعيشان على بعد امتار قليلة من بعضهما البعض.

‎فهذا الشارع الحلزونى الطويل مكون من 3 أقسام: المدخل الجنوبى حيث متوسط أسعار البيوت يتراوح بين 5 و 4 ملايين جنيه استرليني. والجزء الوسط من الشارع حيث متوسط أسعار البيوت يتراوح بين 3 و2 مليون جنيه استرليني، والمدخل الشمالى حيث متوسط أسعار الشقق يصل إلى 350 ألف جنيه فقط. (بمعايير وسط لندن هذا رخيص جدا). شارع بورتلاند بهذا المعنى تعبير عن تناقضات لندن الكبيرة كأى مدينة تكونت على مدار ألاف السنين، ومسائل الفقر والغنى فيها كثيرا ما كانت تحدث بحض المصادفة التاريخية.

‎لم يكن شارع "بورتلاند" دائما بهذا التباين الهائل اقتصاديا واجتماعيا، فالشارع عندما تم بناءه فى منتصف القرن التاسع عشر محاصرا بين منطقة "نورلاند" الفقيرة جدا ومنطقة "لادبروك" المتوسطة الحال والتى أصبحت لاحقا "نوتنجهام جيت"، تم إنشاءه على أراضى خاوية أشبه بالخرابة كان يعيش عليها بعض الحرفيين من صانعى الفخار والغجر الرحل. وكان الهدف من بناء الشارع الجديد أن يجذب الطبقة الوسطى الصاعدة فى بريطانيا فى ذلك الوقت، ولهذا بنيت مبانى الشارع على الطراز الفيكتورى والجورجى الذى يجمع بين حداثة الخطوط المعمارية من جهة، واللمسات الكلاسيكية من جهة اخري. لكن منذ البداية عانى المدخل الشمالى لشارع بورتلاند من وجوده قرب تجمعات الغجر فلم يجتذب الطبقة الوسطي، بل اجتذب الفقراء من ايرلندا الشمالية الذين جاءوا إلى لندن هربا من الأزمة الاقتصادية، والطبقة العمالية، والمهاجرين من الكاريبى وأسيا وأفريقيا.

‎وعلى النقيض منه، فإن المدخل الجنوبى لبورتلاند البعيد عن معسكرات الغجر جذب منذ البداية شرائح الطبقة الوسطي. والسجلات التى تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر تشير إلى ان الكثير من بيوت المدخل الجنوبى كانت مستأجرة من قبل أطباء، وتجار، وعاملين فى البنوك وكان لدى هؤلاء خادمتين على الاقل.

‎وبعد أقل من أربعين عاما على بناء الشارع كانت التباينات الطبقية الكبيرة قد بدأت فى التبلور بالفعل. ففى خريطة وضعها المؤرخ الاجتماعى البريطانى تشارلز بوث فى نهاية القرن التاسع عشر، أشار إلى تلك الفجوة الطبقية بين المدخل الجنوبى من الشارع والمدخل الشمالي. فالمدخل الجنوبى صنفه بوث على أنه "مكان للاثرياء والمقتدرين ماليا"، مشيرا إلى أنه كلما سار شمالا "تدهور مستوى السكان اقتصاديا واجتماعيا بشكل لافت".

‎وتدريجيا بات المدخل الشمالى من الشارع "عشوائيات" طاردة للسكان حتى الفقراء منهم بسبب أهمال المبانى الجميلة التى تحولت بعد نحو مئة عام على بنائها إلى منازل على وشك الانهيار. وساعد على هذا أن الشارع، ضمن مناطق أخرى فى غرب لندن تعرض للقصف الجوى خلال الحرب العالمية الثانية مما أدى إلى تدهور حالته أكثر. وبسبب سمعة المنطقة كواحدة من أسوأ مناطق لندن، كانت المانيا عندما تقوم بغاراتها على بورتلاند والمناطق المحيطة بها تطلق صيحة إنذار تسخر من قذارة المنطقة تقول:"المانيا تنادي...سوف نأتى ونقصف نوتنجهام جيت كى نخلصكم من الحشرات والفئران".

‎ومع آثار الإهمال لعقود والقصف الجوى والفقر، قررت السلطات البريطانية فى الاربعينيات والخمسينيات إزلة المبانى الفيكتورية والجورجية المتداعية، وبناء مساكن شعبية تتبع للمجلس المحلى بدلا منها. وبنيت هذه المساكن الشعبية كعلب الكبريت كى تتحمل أكبر عدد ممكن من السكان، فى شقق صغيرة جدا، ومتلاصقة فى عمارات قبيحة. ومع الكثافة السكانية العالية، وتدهور المستوى الأقتصادى انتشرت الجرائم والعنف الاجتماعى والبطالة وسط سكان المدخل الشمالى من الشارع.

‎على النقيض من هذا، ازدهر المدخل الجنوبى للشارع أكثر وأكثر وباتت تركيبته السكانية اجمالا من الإنجليز البيض ورجال الأعمال الكبار والبنكيين الدوليين، حتى بات يعرف اليوم بـ"غرفة نوم" أغنى مسئولى البنوك فى لندن كما يقول هنرى مايهى حفيد أحد مؤسسى "بنك باركليز" الذى يعمل هو شخصيا فى القطاع البنكى وكان يعيش فى شارع بورتلاند حتى قرر تركه والحياة كليا خارج لندن.

‎بدأت طفرة الأسعار الكبرى فى شارع بورتلاند فى مطلع الستينيات. فمع ارتفاع الأسعار فى تشيلسى وغيرها من مناطق شمال وغرب لندن، وقلة البيوت المعروضة للبيع بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأ العديد من أسر الطبقة الوسطى الانتقال من تشيلسى إلى مناطق مجاورة أقل تكلفة ومنها شارع بورتلاند القريب من تشيلسي. كما ساعد على طفرة الأسعار أن الدولة ألغت قانون التحكم فى الإيجارات عام 1957 وتركت السوق وآلياتها تحددان الأسعار والإيجارات. ومع ارتفاع قيمة الشارع بشكل كبير ومفاجئ، لجأ ملاك العقارات فى بورتلاند إلى طرق عديدة لطرد المستأجرين الفقراء، وذلك عبر التضييق عليهم، وتهديدهم، وقطع التدفئة، والكهرباء، وهدم أجزاء من البيوت كى يجبر السكان على المغادرة.

‎وهكذا خرج الفقراء وتوافدت تدريجيا موجات غزو الاثرياء المتعلمين بمنازلهم التى باتت فخمة بعد إصلاحها، ومحلاتهم ومطاعهم الاوروبية الطابع مثل "مطعم جولي" الذى احتفل بذكرى 40 عاما على تأسيسه وبات اليوم من معالم التحولات الكبيرة فى شارع بورتلاند.

‎ويوضح مايهى أنه خلال العقدين الماضيين بات الشارع "جيتو" حقيقى لرجال البنوك، خاصة من يأتون من أوروبا وأمريكا وآسيا للعمل فى القطاع البنكى البريطاني. وبسبب زيادة الطلب على البيوت وقلة المعروض فى السوق، إرتفعت الأسعار لمستويات قياسية. ويقول مايهي:"إنه جيتو الان. إذا أردت ان تعيش فى الجيتو، عليك أن تدفع ثمن هذا".

‎ووسط هذا التباين الهائل، لم يحدث أبدا اختلاط بين سكان الجانب الجنوبى والجانب الشمالى من الشارع. والعلاقة الوحيدة القائمة بين الطرفين هى علاقة "أمنية"، فكلما زادت حوادث السرقة فى الشارع، زادت أجهزة الإنذار والنوافذ المغلقة والأبواب الحديدية لدى سكان المدخل الجنوبي. ويتذكر جيف واكلين، أحد سكان المدخل الشمالي، أنهم كانوا كلما اقتربوا من جنوب الشارع قام السكان هناك بطردهم. ويوضح:" عندما تقول إنك كنت تعيش فى بورتلاند يعتقد الناس أنك من عائلة ثرية... لكننا فى الحقيقة كنا من أفقر الناس، إن لم نكن أفقر الناس".

‎لقد تغير الكثير فى الشارع منذ تركه واكلين وأسرته. فهو يتذكر أن البيت رقم 129 الذى كان محل بيع الألبان الرئيسى فى الشارع، أصبح اليوم "جاليرى للتحف" تباع فيه قطع فنية بعضها يصل ثمنه إلى مليون جنية استرليني.

‎ليس هناك اليوم ما يمنع سكان المدخل الشمالى من المرور عبر المدخل الجنوبي. لكن الكثيرين لا يفضلون فعل هذا. وكما تقول سيدة عاشت فى المدخل الشمالى من الشارع كل حياتها وشهدت التطورات المذهلة التى حدثت له: "الناس التى تضطر للمرور كل يوم عبر الأجزاء الجنوبية الثرية... تتذكر كل يوم كم هى فقيرة مقارنة بجيرانها. هذا يشبه الدق على الروح كل يوم.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق