رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

مرثيه اموظف
حكومه جهاز زينب

حسام الدين زكريا الإسكندرية
كان أبي يلح على الله طالبا الصحة والمغفرة وسعة الرزق..وكان لايمل صبيحة كل يوم من طلب الرحمة والمغفرة لوالديه أيضا. عجيبة كل تلك الأدعية والابتهالات التي دونها أبي في مفكرته..عثرت عليها صدفة بين أوراقه التي لم يترك لي غيرها ... غادرنا على حين غرة.. ولم يستطع حتى أن يوقع على توكيل بصرف مرتبه الأعجف..!!

لم يترك أبي مناسبة إلا ودون دعاء خاصا بها.. فهناك دعاء للصباح ودعاء بعد صلاة العصر ، وآخر عند ظهور هلال رمضان، ثم دعاء خاص بليلة النصف من شعبان.. كم كان يجتاحني دائما ألم ممض لفقد ذلك الرجل الطيب..ترك لي إحساسا ممضا بالكآبة وعدم جدوى الحياة، وجرحا غائرا لم أشف منه حتى الآن.. وقد مضت خمسون عاما!!..قلبت صفحات تلك المفكرة البالية..كتب أبي دعاء لصلاة الجمعة يوم 12 أغسطس 1928يقول فيه “.. رب ارزقني بحلالك واحفظني وأولادي من كل شر..”..مات أبي بحلاله وذهب إلى تلك البلاد المجهولة التي لم يعد من أصقاعها مسافر..مات فقيرا جدا. كان موته مصيبة كبرى لي ولإخوتي..لم أعثر بين حاجياته على شئ ذي قيمة ، ولم يصلح لي أى بنطلون أو قميص أو حتي سترة تقيني برد الشتاء، فقد كان ربعة وعريض المنكبين وأقصر مني كثيرا..أما ساعته الذهبية..الشئ الثمين الوحيد الذي كان يمتلكه، فقد تبخرت بطريقة غامضة .. وليس هناك سوي زوج شقيقتي الكبرى...!!


<<<<


في الصفحة الخمسين من تلك المفكرة العتيقة دون أبي بالتفصيل مصاريف جهاز زينب، ابنة عمي الكبير “ محمد”، وقد عرفت من أخوالي أنه وجد قتيلا منذ ثلاثين عاما، في أحد حقول البرسيم، وحسبما سمعت من خالاتي أن زينب كانت عروسا في نهاية العشرينيات، ويبدو أن أبي هو الذي قام بتجهيزها..


قابلت زينب بعد أربعين عاما ليلة أربعين عمي الثاني “عبد الشفيع”..لم أذرف دمعة واحدة لدى قراءتي نعى عمي الجبان عبد الشفيع..كنت أتناول عشائي على دكة خشبية برصيف محطة قنا..تأخر القطار ساعتين..بينما برد فبراير يعصف بالرءوس..ولم يكن زبادي قنا المزعوم كما حدثونا عنه دائما “..يرقد بهيا متشحا بالبياض في أوانيه الفخارية حاملا طعما من لبن الجنة..”..عندما هممت أن أمسح فمي في ورقة الصحيفة التي كانت تضم أقراص الطعمية ارتطمت عيني بنعى عمي الجبان عبد الشفيع..تصدر اسمي أسماء إخوتي..إنهالت على الذكريات كمطر غزير ..أخذت أقتات انفعالاتي..وسؤال حائر يتردد صداه ، وأنا أستعرض شريط حياتي، وأبي يصارع الموت، بينما يمر قطار يفزع الموتي بصفارة كالعويل..لماذا لم يقم عمي الجبان بتجهيز زينب وكان أيسر حالا بكثير من أبي..؟..استحضرت صورة زينب ..ترى ألا زالت على ظهر تلك الأرض القفر..؟..لم أكن قد رأيتها في حياتي..قمت متثاقلا إلى مكتب التلغراف وادعيت أنني أشاطر أرملته الأحزان.


<<<<


تعالت ضحكات كثيرة في أربعين عمي الأناني. كانت شقته تحت ظلال جامع بن طولون بالخليفة، وبجوار سبيل أم عباس،..واختلط صوت قارئ القرآن بضوضاء وسعال أقاربي، وأكثرهم ممن يتعاطون الحشيش والبانجو..!انتحيت ركنا مع أرملة عمي في الصالة وعزيتها ببضع كلمات..لاحظت أنها قد عقدت طرحتها فوق رأسها بأناقة، وبدا لي أن وجهها قد تورد قليلا…لم تزدعلى قولها : “إستريح “..وبدا لي أن اربعين عمي كان أكثر بهجة من حفل عقد قران..بل لقد خيل إلى أن أرملة الوغد تكاد تطلق زغرودة فاقعة، وهى خارجة من غرفة مكتبه في صحبة بعض أقاربنا وموظف من المصلحة الذي حضر لأخذ توقيعها على أوراق المعاش..وكانت الغرفة السوداء الذي قبع فيها في سنواته الأخيرة بين دخان سجائره، نظيفة مرتبه ويغمرها ضوء نجفة صغيرة لأول مرة..!!


من بين كتلة النسوة السوداء في نهاية الصالة، برزت عجوز تتدحرج مهتزة يمينا ويسارا.. وتقدمت نحوى ببطء وعلى وجهها ابتسامة غائمة...فوجئت بها تطبع على خدي قبلة هبت معها روائح خبيز ونيران فرن فلاحي آتية من زمن سحيق..!!


“..طبعا لايعرفني..!!؟ كان صغّير أوي..”


“..ماكانش يحصّل شبر أيامها..”


وأردفت أرملة عمي في لامبالاة: زينب بنت عمك محمد


من المستحيل أن أصف شعوري في تلك اللحظة..اجتاحتني أعاصير من أحاسيس غامضة وكأنها رياح عاصفة رملية عاتية برزت من خلالها الصفحة الخمسين من مفكرة أبي..والعجيب أن أثمان مفردات الجهاز كانت واضحة أمامي على نحو لم استطع تفسيره... كانت أسعار تفوق الخيال ..سرير نيكل بلتكان مسدس ماركة “مودرن باريس” بخمسة جنيهات..!!سرت رعدة باردة في أوصالي وأنا اسلم على زينب


<<<<


انتزعتني نكتة سخيفة تفوه بها ابن خالي من بئر ذكرياتي السحيق، وعلى مائدة العشاء التي ضمت شتات العائلة بعد طقوس الأربعين، أصررت على أن تكون زينب بجانبي..ردّت على سؤالي المتكرر، وهى تعالج قطعة لحم مستعصية بين طقم أسنانها: “..ساكنة في الوايلي مع ابني.. شغّال في الكوبانية ..دا قرب يطلع معاش ..جوّز عيلين وعنده بت واخده الدبلون..” أدركت أن الصمم قد جثم عليها أيضا..دار الزمن دورته وصارت زينب جدة، وجرحي لارجاء في شفائه..ورأيتني دون وعى مني أهمس في أذن زينب: تعرفي مازلت أحتفظ بالمفكرة التي دون فيها أبي مصاريف جهازك..!! فهمت كلامي بصعوبة . أطلقت ضحكة عريضة كشفت عن كم مهول من تجاعيد وجهها وطقم أسنانها النضيد عندما أخبرتها أنني حفظت عن ظهر قلب أسعار المنقولات كلها..لم أشعر بنفسي وأنا أسرد بصوت كالفحيح : شماعة نيكل ماركة “إيديال” بجنيه ونصف..طقم صيني وارد سكسونيا جنيهان ونصف...!! توقفت زينب عن الضحك وتولاها وجوم غريب على حين غرة..استطعت أن ألمح دموعا متسللة بين مقلتيها المغبرتين بتراب السنين..لكنها لم توقفني..تولاني شعور غريب..لكأني كنت أقرأ وِردا على قبرالرجل..!! سجادة صوف تبريزي مقاس ثلاثة في أربعة أمتار..ثلاثة جنيها..أى عصر ذهبي كان يازينب... أجرة تنجيد المراتب والألحفة والحشيات مع الشيال ستون قرشا..كنت كمن ينبش قبر أبي بكل همة.. سلم عليك في وادي الآس والريحان والخير العميم : “..سجادة قطن صغيرة متر وثمانين في متر وعشرين خمسة وسبعون قرشا ، أجرة مشال السرير والشماعة والسجاد ستة قروش، سعر النحاس ثلاثة جنيهات وسبعة وثمانين قرشا..”


أجهشت زينب باكية ونحن نشرب الشاى بعد العشاء..لم تلفت أنظار أحد بين ثرثرة النساء. ظن القوم أن زينب تبكي عمي ساكن الجحيم..لماذا قام أبي المحدود الموارد ذو المرتب الضئيل بتجهيز زينب وحده..؟؟!!


-لا زلت أذكر الثمن الذي تقاضاه المنجد لقاء تنجيد وتركيب كسوة الصالون وكرسي.. التسريحة.. أربعون قرشا..!! هل هذا معقول..؟


- أبوك كان شهم طول عمره..مسحت زينب دموعها..- ياه الكلام ده كان من خمسين سنة


<<<<


تبخر معظم المعزين، وتكورت زينب على الكنبة ، وقد أسندت رأسها بيدها...وبدت كقطعة من الماضي متشحة بالسواد، وتوهجت في رأسي فكرة ملحة..لم لاأذهب معها لبيتها واستحضر ذلك الماضي السحيق ..؟ مازالت ذكرى موت أبي تعربد في كياني وتمزق أي ضحكات وأنا استشعر مرارة الفقد..مازال الحزن يليق بي ودموعي تتصل بذلك الرجل عبر تراب كثيف ..أيها الميت بحلاله .. الذي كان الموت أعز أمانيه في أخريات أيامه... ترى أمازالت هناك بقايا لتلك”الموبيليا”الأسطورية؟


“..كنت عاوز أوصلك يابنت عمي..”


“.. وليه التعب.. الوقت متأخر..”


حاولت التسرية عنها “.. على الأقل تريني شيئا من الموبيليا..!!”.. أردت أن أشم رائحة أبي.. مازال منظره وهو على فراش الموت يطاردني بلا هواده.. لم أرد له شيئا من جمائله ..كان يطلب عباية من أول مرتب أقبضه ولم يمهله القدر..حتى المستشفى الوضيع الذي فاضت فيه روحه..كان القطار يمر بجواره ويوقظ الموتى في غدوه ورواحه.


“..لك طولة العمر..ماكل حاجة دابت مع الزمن


“والسرير النيكل ماركة مودرن باريس..؟”


بعد وفاة زوجي بعت السرير، وماتبقى من الموبيليا وأقمت عند ابني في الوايلي ..مازلت أحتفظ بكرسي التسريحة .. وحلة نحاس كبيرة..مازال كرسي التسريحة عندي..كرسي التسريحة بيفكرني بشبابي.. طيب وإنت إيه اللي بيفكرك بالحاجات دي دلوقت..؟!


<<<<


في التاكسي الذي أقلنا إلى الوايلي غرقنا في بحر من الصمت، وتحولت أنا إلى لهب خافت من ذكريات مريرة .. رمقت زينب بطرف عيني، غلفها الأسى والفقر بغلالة كئيبة سوداء. وقد غلبها النعاس فمالت بجسمها الخالي من أى ملامح متكئة على..وأفقت على صوت متحشرج لسائق التاكسي يقول”الوايلي” .. توقف شريط ذكرياتي- مع صوت فرامل التاكسي، عند منظر أبي وهو يصارع الموت في ليلة شتاء موحشة وأمي تضع على جبهته قطرات من كولونيا “ تلات خمسات “ قبل أن تطلق صرخة اهتزت لها جدران المستشفى ، وهو يجود بآخر نفس.


أشارت لي زينب نحو منعطف في الطريق..وسرنا في بطء، وهى تتكئ علىّ وتتعثر في أحجار الطريق، نحو حارة مظلمة، ودلفت أمامي من باب ضيق لمنزل متهالك من دورين..واجتاحت أنفي على الفور رائحة نفاذة اختلطت فيها الرطوبة مع عفن غامض ورائحة تقلية قديمة...!! كانت الشقة مكونة من حجرتين خصصت واحدة لزينب والأخرى لابنها وزوجته.. تجمدت وسط الغرفة الخالية الباردة مبعثر الوجود..كان النور خافتا، وهناك في أحد الأركان مرتبة ملفوفة في حصير، ثم كرسي خيزران وطاولة بثلاثة أرجل تستند على بروز في الجدار..


في بطء سارت زينب نحو شئ ملفوف في ملاءة بيضاء في الركن، وأزاحت الملاءة المشبعة بالتراب جانبا ليظهر كرسي التسريحة ..ذهب لون كسائه القطيفة..مسحت زينب التراب في رفق وقدمت لى الكرسي وفي عينيها نظرة استسلام غريبة... وجدتني أتناول الكرسي الصغير..وأجلس عليه في رفق، وقد شعرت بإرهاق اليوم كله يثقل كاهلي..وأغمضت عيني...


<<<<


..لاأدري كم مر على من وقت وأنا في ذلك الوضع، إلا أنني أفقت على صوت زينب وهى جالسة على الأرض أمامي كراهب بوذي..كانت تنظر إلى في عطف ممزوج بالأسى.. وكان صوتها آتيا من مكان بعيد قائلا : أعملك شاى يابن عمي..؟


كان ذلك منذ حوالي عقد من الزمان ... ولا أعرف أخبار زينب .

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق