«أيها الفارس النبيل، ما الذي جاء بك في هذه الساعة المظلمة؟ أجب!» م. ليرمنتوف قبل نحو 10 أعوام، وذات صباح، فوجئت بتجريدة من رجال الشرطة تقف على باب شقتي بلا سابق إشعار، ضابط وثلاثة أمناء، متبوعين بأورطة عساكر، «شاكي السلاح» في وضعية ضرب النار، وكأنني جيش معاد. ظننت، في البداية، أن في الأمر خطأ ما، وأنهم سرعان ما ينصرفوا معتذرين. لكن الضابط أخبرني،
أني مطلوب بالاسم: «عليك حكم غيابي بالسجن 6 شهور وغرامة 100 جنيه، بتهمة تبديد منقولات عامة، اتفضل معنا لو سمحت». وبالطبع، لم أتفضل، بل سألته ببراءة: «منقولات عامة عبارة عن إيه يا افندم؟»، خصوصا أني لم أتعامل مع أي منقولات لها صفة «العمومية» في حياتي، فقال إنه لا يعرف، وأنه مكلف بالمأمورية ضمن مهام أخرى، وبدأ العساكر المتأهبون في التململ، مستعجلين إنهاء مهمة القبض علّي إنفاذا لحكم العدالة. وهنا، اضطررت آسفا للاتصال بأحد أصدقائي النافذين، وأفهمته الموقف، وكوني لا أعرف تهمتي بالضبط، فقال إنه سيتصرف على الفور. وخلال أقل من 3 دقائق، كنت خلالها أضيّف هؤلاء الزوار الثقال، اتصل صديقي، كما حكى لي فيما بعد، بضابط عظيم، فتحدث هذا إلى الضابط الأقل عظمة الواقف أمامي على تليفونه الشخصي، وقال له شيئا، وحينما انتهت المكالمة تصرف الرجل بلباقة، وأخبرني أني لن أذهب معهم إلى قسم الشرطة، ولكن لابد من «عمل معارضة» في الحكم غدا على يد محام، ثم انصرف الجميع بسلام. وفي مساء اليوم نفسه، ذهبت إلى محام أعرفه لاتخاذ اجراءات معارضة الحكم، ومعرفة تهمتي، وقد كان. ففي صباح اليوم التالي، اتصل بي المحامي من المحكمة وأبلغني أن قضيتي صارت منذ صدور الحكم فيها حديث الساعة في غرفة المحامين، وأنها تحولت إلى ما يشبه النكتة، لأن التهمة هي «تبديد كتاب مملوك للدولة». والحكاية أني قبل نحو 15 عاما من هذا التاريخ، كنت استعرت كتابا هو المجلد الثاني من «دون كيشوت» من مكتبة «حلوان العامة»، جنوب القاهرة، حيث كنت أسكن وقتها. وكان ذلك بناء على تعهد رسمي مختوم بخاتم النسر، وموقع من «2 موظفين» حكوميين، يُطلق عليه اسم «الضمان»، الغرض منه أن تضمن المكتبة حقها في استرجاع الكتاب من القارئ الذي قد يسوّل له الشيطان الاحتفاظ بالكتاب لنفسه. ومثل كل أخطاء العالم التي تبدأ صغيرة، حدث أن غادرت القاهرة في مهمة عمل إلى قرية «سيدي عبدالرحمن» في الساحل الشمالي. ولأني كنت شابا أعيش حيثما أريد، وإذ أعجبني المكان، فقد أقمت هناك لمدة سنتين تقريبا، وتركت شقتي ليسكنها الفراغ. وحينما عدت، وجدت الشقة وقد صارت كئيبة، فانتقلت إلى أخرى، ومنها إلى مسكن ثالث بعد بضع سنين. وهكذا، يعلم الله وحده أين اختفى «دون كيشوت» مع مئات الكتب التي ضاعت مني خلال هذه التنقلات، ومن الطبيعي أني نسيت الكتاب تماما حتى فوجئت بعد 15 عاما لم تنس خلالها الدولة بكل دأب كتابها، أني مطلوب للسجن بتهمة «التبديد». حكيت للمحامي الذي كان شغوفا بأن يسمع حتى يحكي لزملائه، هذه القصة، وكيف أني لا أتذكر من الكتاب سوى جلدته الرمادية، فقال بحسم: «لابد من رد الكتاب نفسه، أو نسخة أخرى منه تقبلها المكتبة، خاصة أنه جزء ثان من كتاب لديهم جزؤه الأول، أمامك أسبوع لكي تتصرف، وإلا سيتم التصديق على الحكم، علما بأن القاضي عصبي متجهم وأحكامه شديدة». كان البحث لدى الأصدقاء عن نسخة من كتاب مطبوع سنة 1958، اختفت في ظروف غامضة، ضربا من شغل الحواة لا طاقة لي به، ناهيك عن أنها جزء ثان، فمن المؤكد أن أحدا لا يحتفظ بجزء واحد من كتاب. أما الشقق التي كنت أعيش فيها، فالناس عادة ما تتخلص من هذه المتعلقات الغريبة، فيكون مصيرها غالبا إلى باعة «الروبابيكيا». ثم إني حال سؤالي السكان الجدد بعد كل السنوات عن «كتاب» ما، فسيكون مصيري أنا أيضا مكالمة إلى أقرب مستشفى مجانين. وإذا استبعدنا المكتبات، فهي لا تبيع كتبا مستعملة، فلن يتبقى إلا أسوار الكتب القديمة في القاهرة. لذلك، ولمّا كان صباح اليوم التالي استيقظت مبكرا، تدفعني الـ6 أشهر سجنا إلى الجد والاجتهاد، واتخذت طريقي إلى «سور الأزبكية»، حيث رحت أفتش عن بغيتي وسط آلاف الكتب، من الصباح حتى المساء، دون أن أعثر للسيد «دون كيشوت» على أثر. وفي الغد، كان مقصدي هو سور «جامعة القاهرة»، آلاف أخرى من الكتب «السكند هاند» في انتظار من ينتشلها من الأرصفة، ولكن، لم يكن الفارس الإسباني مرابطا هناك. أما في اليوم الذي يليه، فقصدت «سوق الجمعة» الذي ينعقد أسبوعيا في مقابر «التونسي» بمنطقة البساتين، باحثا عن بغيتي وسط هالات الموتى المتضررين، وفي أكوام الملابس المستعملة، والساعات المعطلة، وشرائط الفيديو والكاسيت المجهولة المحتوى، قبل انقراضها الآن، والمتعلقات الشخصية المسروقة من الشقق، ناهيك عن الثعابين الحية والقنافذ المستكينة، المعروضة للبيع.. ولكن ما من «فارس» هنا. وكان اليوم التالي هو الأخير في المهلة المضروبة لي، وهو اليوم الذي قررت فيه: إما توفير أي نسخة، ولو طبعة أخرى من الكتاب، أو الانتقال إلى شقة أخرى لا تعرفها «مباحث تنفيذ الأحكام»، كأي «آبق» من العدالة. ومثل أي متهم بـ«تبديد» دون كيشوت، ليس أمامه سوى الحركة الأخيرة البائسة، قبل تقييد حركته في غياهب السجون، وبعد أن كنت فقدت حماستي، ذهبت في الظهيرة إلى «سور الأزهر»، فلم أجد إلا كتبا تراثية قديمة. وفكرت: لولّا أني لم أتنكر لتراث أجدادي مُفضلا عليه تراث الأعاجم، لكنت الآن دبرت نسخة من الكتاب المفقود. ولم يعد هناك إلا «سور السيدة زينب»، كآخر أمل. وحينما وصلت السور، كان الظلام يرخي سدوله علّي بأنواع الخطط للهروب من هذه المدينة، عائدا إلى قريتي في أعالي الصعيد، أو فارا إلى الساحل الشمالي، فوجدت الأكشاك شبه معتمة، وكتبا لا قيمة لها من نوع «الواحد بجنيه» ملقاة على الأرصفة، وباعة شبه نائمين، فليس هناك أكثر من 4 زبائن على طول السور. حصلت على كوب شاي بطريقة ما ووقفت أدخن سيجارة، وابتسمت وأنا أتخيل القاضي بعد هروبي من عدالته سادرا في جهامته، يصدق على الحكم بسجني كأنه سيف القدر المثلوم. وفي هذه اللحظة، حين فقدت آخر أمل في استمراري مواطنا صالحا، وبعد 6 أيام من البحث، وقعت المعجزة التي ضربت «حصان أرسطو» في مقتل، ذلك الحصان الذي لا يمكن أن يقف على قدمه الأماميتين في الفن، ولو فعلها مصادفة في الحياة. في تلك اللحظة المباركة، لمحت المجلد الرمادي ذاته، هو نفسه الذي استعرته من المكتبة. وعندما تفحصته، وجدت صورة بطاقة الاستعارة ملصقة في باطن الغلاف الأخير، وعليها بيانات الكتاب وتوقيعي بتسلّم النسخة من المكتبة، فاشتريتها بـ5 جنيهات ومضيت إلى حال سبيلي، مناديا من غير صوت: أيها الفارس النبيل، يا نصير الضعفاء، ومحطم قلوب العذارى، وقاهر طواحين الهواء، ما الذي جاء بك في هذه الساعة، فلم تمنحني فرصة أن أكون واحدا من الخارجين على القانون، مرة واحدة، وإلى الأبد؟!
رابط دائم: