ورغم ان تلك الافلام لا تزيد علي المائة ولاتعد مؤشرا وحيدا لاهتمامات السينمائيين الغربيين، لكن اذا وضعنا في الاعتبار ان الاعمال المعروضة ستصنف بسبب عرضها بمهرجان كان على إنها من أهم الاعمال الفنية في الغرب، سنعرف الي اي مدي سيكون تحليلها مؤشرا قويا علي الهموم والاساليب واتجاهات النظر.
احد اهم افلام الدورة 68 لمهرجان كان هو فيلم ( مرحلة الشباب) للايطالي الموهوب جدا باولو سورنتينو مخرج فيلم «الجمال الكبير» الذي حاز علي جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي العام الماضي. وفي فيلمه الجديد يستمر في اسلوبه الاقرب لفن الأوبرا من حيث مزج الروح الموسيقية الوثابة وتعميق التعبير بالغناء والحس الملحمي الطاغي علي الدراما والاستيحاء من عالم الافلام صور ومرئيات وعوالم سبق تقديمها ورسخت في الأذهان من قبل.يتركز ( مرحلة الشباب) علي اثنين من الكهول هما النجمان الامريكيان مايكل كين وهارفي كايتل يمضيان معا عطلة في الفنادق السويسرية الخاصة المطلة علي جبال الالب. اولهما موسيقي متقاعد يقضي فترة نقاهة وفحوصات طبية ترافقه ابنته ومساعدته التي تلعب دورها الممثلة البريطانية الرائعة راشيل وايز. وهي بالمصادفة زوجة ابن صديق أبيها الموجود هنا ويعمل كمخرج سينمائي جاء ليكتب سيناريو فيلم جديد اسمه «اخر ايام حياتي» بمرافقة مجموعة من الشباب. الفندق الاشبه بالمصحة نماذج بعضها واضح والاخر تبدو منه بضعة ظلال لتصنع العالم الخاص للفيلم وتبدو وكأنها أحلام وكوابيس نهاية الفيلم للرجلين. من بين هؤلاء رجل اشبه بأسطورة كرة القدم مارادونا يعاني من مشاكل في الحركة والتنفس لكن لم يفقد عبقريته الكروية، وممثل امريكي اخر ( بول دانو) يبدو وكأنه في حالة اكتئاب لنجاحه في ادوار انسان آلي ولا احد يري انسانيته في اي وقت، فيقرر التنكر مرة في ملابس هتلر للخروج مما هو به . وملكة جمال الكون مادالينا غينيا التي تظهر في مشهد كامل عار لتوقظ مشاعر الشباب يتأسي عليها البطلان. وجين فوندا التي تلعب دور ممثلة امريكية عجوز شريرة كانت رفيقة المخرج الامريكي ومصدر وحيه وجاءت للفندق السويسري لتعتذر له عن بطولة الفيلم الجديد، و تقول له انه لم يصبح له قيمة. ويظهر بالفيلم ايضا من وراء الستار مجرد علامات كرجل عربي خليجي وسيدات عائلته المحجبات وعاهرة صغيرة تنتظر ان يحن عليها احد عجائز الفندق وزوجان من العجائز صامتان وشبقان وراهب بوذي شبيه الدالاي لاما يتامل و معالجة مساج تحاول ان تفهم العالم من خلال حاسة اللمس التي تجيدها، وهناك نجوم غناء معروفون من عالم البوب والاوبرا مثل مارك كوزليك وسومي جو وبالامو فيث التي اخذت زوج راشيل وايز منها فانهارت نفسيا واخذ أبوها يواسيها، ثم اعتذر عن قيادة اوركسترا لحفل خاص بملكة انجلترا.
الجمال والحب
وكما يقول مايكل كين الذي يلعب دورالموسيقار (الموسيقي كانت دائما، لا احتاج معها للكلام)، هكذا هو ايضا فيلم سورنتينو الموسيقي هي جسده ومادة بناؤه الدرامي، وكما اسلفنا لا توجد حبكة درامية واضحة بالفيلم اكثر من متابعة البطلين وحواراتهما الدائمة عن الحياة واولادهما والفن، لكن شحنة المشاعر التي تصل للمتفرج سببها ما يمكن تسميته التداعي بالصور والموسيقي او ما يسمي بالادب تيار الشعور. كل ما يشعر به البطلان ينتقل الينا حتي شبابهما الذي انحسر والذي استعادا روحه مع صور الجمال المتعددة بالفيلم. سورنتينو هو اكثر من فيلسوف وشاعر، هو مفسر للكون من خلال السينما المليئة بالموسيقي.يقول مايكل كين لقد عملت كثيرا بحياتي ولم اعد اهتم بشىء الان حتي الموسيقي، علي عكس المخرج المهتم بفيلمه الاخير الذي يريد خروجه للنور. كل شخصيات الفيلم تبحث عن شىء ما مادي اقرب لحلم كبير الا الموسيقار الذي يتبني الفيلم نظرته التأملية ليثبت ان ما يجعلنا نستمر بالحياة هو احساسنا بالجمال وبالحب. خلص سورنتينو انه لا النجاح ولا العمل يسببان تلك السعادة المبتغاة بل الجمال والحب. حتي ان الموسيقار يقول لقد نسيت أحداثاً كثيرة مرت بي، حتي في علاقتي بابنتي، كيف اضعت عمري اذن علي امور سانساها فيما بعد.وحوله كل الثقافات بما فيها العربية والاديان بما فيها البوذية وطبائع البشر السيئة ومنها الدنيئة والرفيعة وارقاها الحب، وهو يصل للحقيقة قرب نهاية حياته: الجمال والحب. يشبه الفيلم كثيرا عوالم افلام فيليني خاصة فيلمه 8 ونصف لكن يظل للفيلم وخصوصيته.
البراءة والطفولة
فيلم (الامير الصغير ) هو من اجمل وأرق وأكثر شاعرية فيما عرضه مهرجان كان منذ سنوات. الفيلم اخرجه مارك اوسبورن عن واحدة من اعظم واشهر قصص الاطفال بالعالم، قصة الامير الصغير للكاتب الفرنسي انطوان دو سانت اكسوبيري. واوسبورن معروف بمشاركته في اخراج كونج فو باندا: واحد من اكثرافلام الرسوم المتحركة نجاحا في السنوات الاخيرة. القصة تحكي عن طفلة صغيرة تسكن بمدينة امريكية كبيرة مثل نيويورك تنتقل اليها مع امها استعدادا لدخول مدرسة امريكية بارزة. ويقع مصادفة في المنزل المجاور لهم منزل عجوز عبقري ومتمرد تقاوم الام صداقة ابنتها له. لكن الابنة تنجذب لعالم العجوز الساحر وقصصه التي يرسلها لها صفحة وراء اخري، وهي في الاصل قصة الامير الصغير لاكسوبيري الذي يعيش في عالم صغير خاص به يكتشفه طيار هبط بطائرته فجأة بالصحراء. يختلط الامر علي المتفرجين احيانا هل الجار العجوز هو الامير الصغير ام الطيار الذي تعطلت طائرته خاصة ان العجوز يحتفظ في حديقة منزله بطائرة قديمة يحاول مرارا وتكرارا الطيران بها رغم حالتها المزرية لكن الشرطة المحلية تمنعه. يصاب العجوز بأزمة قلبية وتنهار الطفلة ان ملهمها وصديقها في هذة الحالة خاصة بعد ان بدأ يكشف لها اسرار العالم وان اجمل ما فيه هو البراءة والطفولة. لا يخرجها مما هي فيه الا زيارتها لمنزل العجوز واكتشافها انه اصلح لها طائرته وجعلها معدة لكي تقوم بمغامرتها لاكتشاف العالم ومعها عروسة علي شكل ذئب طيب. ولكن بدلا من ان تقود المغامرة الطفلة الي الصحراء حيث عالم الامير الصغير تقودها الي مدينة مزدحمة كئيبة اغلب الناس فيها حزاني منشغلون ومنحنون من اثر التركيز المفرط في العمل، حتي الامير الصغير الذي عثرت عليه كان قد كبر واحتفظ فقط باسم امير واصبح عامل نظافة خائف ان يترك عمله، وخائف حتي من الحلم. الرجل المختال بنفسه في قصة الامير الصغير اصبح شرطيا والرجل الذي يقضي وقته كله في شراء النجوم اصبح رجل اعمال يريد ابتلاع كل الموجودات وتحويل كل البشر لخدم .
الحرية والأمل
وفي نهاية سينمائية ستصبح من كلاسيكيات افلام الرسوم المتحركة تمضي نهاية الفيلم خلال 20 دقيقة تستطيع الطفلة تحرير النجوم من محبسها لدي رجل الاعمال وانقاذ طائرة جارها العجوز و اعادة الامير الصغير لطفولته وبراءته. كم كان جميلا هذا الفيلم الحلم الذي نجح فيه اوسبورن في الحفاظ علي روح القصة الاصلية مازجا ما بين تقنية الرسوم المتحركة القديمة ( ستوب موشان) مع الثري دي التي تميز افلام الكارتون الحديثة. كل ذلك اعطي للفيلم دفقات شعورية مركبة تمزج ما بين الحرية والامل والصداقة ومعاني رائعة عن البراءة وضرورة الحفاظ علي روح الطفل داخل كل منا مهما كبر.
الفيلم الاخر الذي يقدم العالم اشبه بكابوس هو «سيكاريو » اخراج الكندي دنيس فيلنوف الذي سجل اسمه من قبل كمخرج مميز صاحب بصمة في فيلم «حرائق» عن مآسي عائلة كندية اثناء الحرب الاهلية بلبنان. سيكاريو معناها اللصوص الشديدو البأس والذين يختلط عليك الامر من هم تحديدا بالفيلم.يبدو الفيلم كأنه واحد من الافلام عن الصراع حول تهريب المخدرات علي الحدود الامريكية المكسيكية. كلما توغلت في احداث الفيلم لا تعرف تحديدا من هو الخير ومن هو الشرير. الفيلم طبعا يحدد شخصياته في جانبين اولهما جانب افراد مهمة امريكية للقضاء علي رئيس اكبر عصابة تهريب مخدرات علي الحدود والتي تقتل العائلات من الجانبين وترشي الشرطة وتراوغ الجميع، وعلي راس افراد المهمة، قائد غامض مرسل من وزارة الدفاع الامريكية (جوش برولين) يضم لفريقه عميلة للمباحث الفيدرالية (اميلي بلانت) التي يتبني الفيلم وجهة نظرها السردية في اكتشاف ان كل من حولها يتلاعبون، رجل اغرمت به كان سيقتلها لانه ضابط شرطة يعمل مع العصابات المكسيكية، ورجل وزارة الدفاع هو اساسا تابع للمخابرات الامريكية مهمته انه جلبها لانه ممنوع للسي اي ايه العمل علي الحدود بدون مشاركة عنصر من المباحث الفيدرالية، ورجل كولومبي (بينيشيو ديل تورو) ادعي ان كان المدعي العام بالمكسيك وهدفه كشف عصاباتها وظهر انه كولومبي يعمل مع الأشرار والاخيار و هدفه كان قتل رئيس العصابة الذي قتل ابنته من قبل وينجح في ذلك بالفيلم مع رجل السي اي ايه .بل وهدد ديل تورو عميلة المباحث بقتلها اذا ما وشت بانهم استخدموا طرقا غير قانونية بهذه العملية. وتركها تري انه لا ثقة في اي شخص في هذا العالم.
احلام كانت ام كوابيس ، لكن يكفي لتلك الافلام روح البحث عن معان جديدة لحياة الانسان علي الارض.