«النص جميل مثل قنبلة أُلقيت على حقل البلادة الماثل فإذا العالم يبدو بعدها أكثر جمالاً أو قابلية للعيش»، هكذا رأى صديقى المهاجر الى أستراليا عبد الحميد البرنس قصتى «شجرة توت» بعد أن نشرتها «الحياة» فى ملحقها الثقافي. قال عبد الحميد، أو بالأحرى كتب لي: «أدهشتَنى تماماً. وكم تمنيتُ لو أن أصلان قرأ».....
طيب؛ فلأرجع الآن إلى الوراء، بحثاً عن أصل الداء، أو عن أى شيء آخر قد أجد أنه يستحق أن يُكتب، فى نص طويل، كما تمنى رءوف مسعد، وليسامحنى صديقى البرنس الذى يرى أن عليَّ أن أتعامل مع «شجرة توت» باعتبارها قصة قصيرة، وليس متن نص طويل.
....
عام 1973 استشهد خالي، العريف مجند محمد توفيق ريحان يوسف. فى ذلك الحين، كنتُ قد أتممتُ العاشرة من عمري، وكانت جدتى لأمى تسكن حجرة مجاورة لحجرتنا فوق سطح العقار 12 شارع شمس الدين، وزارنا وفد؛ لا أدرى إن كان شعبيا أو حكوميا لإبلاغها بالخبر.
على ما أتذكر الآن، فإنه كانت بين أعضائه المذيعة الشهيرة حكمت الشربينى والتى كنت أحب الاستماع إلى قراءتها للشعر فى إذاعة الشرق الأوسط.
جدتى لأمى لازمها الحزنُ ما تبقى لها من عمر، حتى بعد أن صرفت الديَّة واستلمت شقة فى «مدينة الفردوس»، التى يسميها قاطنوها «المجزر»، وحجَّت بيت الله، وأحياناً أشك أنها أصل دائي، لكننى للأمانة أشك كذلك فى جدتى لأبى وأرى أنها هى الجديرة بنيل هذا الشرف أكثر من غيرها، فقد كانت – رحمها الله- نموذجا للجنون الذى لا شفاء منه، خصوصا مع تقدمها فى العمر وحتى رحيلها عن حوالى 90 سنة.
أذكر أنه قبل 1973 بقليل، أو ربما فى العام نفسه، استضافتنى جدتى لأبى فى غرفتها فى 16 عطفة طرطور؛ باب الشعرية؛ ومرَّ خالى محمد عليها - قبيل استشهاده طبعا- وأخذنى إلى حديقة الحيوان بالجيزة، وربما كانت تلك المرة الأخيرة التى رأيته فيها.
...
أما أمي، فبعد أن ولدتنى بأيام قليلة فى المستشفى العام بالمنصورة، سافرت بى إلى القاهرة. كان أبى القاهرى المولد، مختفيا، فراحت تفتش عنه عند حماتها. ولدتنى فى مستشفى المنصورة العام لأنه لم تكن معها أجرة الداية. أمى المولعة بالموالد من سيدى ضرغام إلى الحسين: مدد... «أنا اللى أهل بيت النبى من أهلى خدوني/ وعلى باب سيدنا الحسين سابوني/ على مدرسة الحب ودوني/ واتفتحت دفاتر الامتحانات/ ولما نجحت عند أهل البيت ثبتوني/ أنا قلت يا عُرب يا الل تودوا الناس ودوني/ قالوا نعِدك معانا/ أنا قلت عِدوني».
...
لنقل إنه نص مفتوح. وهو جدير فعلا بذلك، كما كتب لى رءوف مسعد، على الفيس بوك؛ فليس من المعقول أن نغفل هذيانات طارق حجازى وأحمد عبد الحميد وأحمد أبو الفضل وأسامة أبو النصر والدكتور عمر، وهو صيدلى يقال إنه دخل المصحة قبل نحو عشرين عاما بعدما قتل ابنة شقيقته، ورئيس المحكمة الذى لا أذكر الآن اسمه، وهو حين تأتيه «الحالة» يظل يردد «لا إله إلا الله، محمد رسول الله»، وهو يميل بجذعه إلى الأمام وإلى الخلف. وهناك أيضا ضابطا الشرطة أيمن مجاهد ومحمد حبيب، وحازم الذى يبدو فى الأربعين من عمره وترفض أمه منذ سنوات عدة خروجه من المصحة، ولو حتى لإجازة قصيرة.
لكن يظل الأبرز طارق حجازي، الذى يقول إنه عميد كلية هندسة المطرية التابعة لجامعة حلوان، وسمعت آخرين يقولون إنه فعلا كذلك، أما غير ذلك فيدخل ربما فى باب الهذيان، ومنه أنه دخل المصحة بأمر من رئيس الدولة الذى علم أن طارق يفكر فى خوض انتخابات الرئاسة وأنه حتما سيكسبها بفضل أصوات المنتمين الى نقابة الأشراف والجماعات الصوفية المختلفة.
طارق يقول عن نفسه أحيانا إنه نقيب الأشراف، ويقول كذلك إنه يحب السيسى وإنه مستعد لأن يتولى منصب رئيس الوزراء على أن تكون له صلاحيات تفوق صلاحيات رئيس الجمهورية، حتى يتسنى له تطوير القاهرة فتظل هى العاصمة، وبالتالى يتوارى تماما مشروع نقلها، لأنه مشروع فاشل تماما، كما يزعم.
ويقول طارق؛ وهو زبون دائم على مصحات نفسية عدة منذ 1994 إنه توصل الى أن نظرية اينشتين عن النسبية ليست صحيحة، وأن نظرية الانفجار العظيم الذى ترتبت عليه نشأة الكون ليست أكثر من خرافة.
عن نفسي؛ قرأتُ مؤخرا أن الانفجار الكونى الكبير حدث قبل 13٫8 بليون سنة، ولستُ واثقاً فى هذه اللحظة مما إذا كانت تلك حقيقة أم مجرد افتراض تعوزه الدقة، أو يعوزه ما يثبت أنه حقيقة لا مناص من التسليم بها.
ولذلك وجدتنى أستمع باهتمام شديد إلى طارق وهو يؤكد أن «الانفجار الكونى الكبير» ليس سوى كلام فارغ، لأنه يناقض ما ورد فى القرآن الكريم عن أن الله خلق السماوات والأرض فى ستة أيام ثم استوى على العرش. هنا قال أحمد عبد الحميد بعد أن أقنعوه بأن يحلق ذقنه: «قالولى احلق دقنك. لأنك مبتتعبش إلا بعد ما بتربيها. ادينى حلقتها وبرضو بيقولوا انى لسه لسه تعبان. يا جماعة الأدوية اللى بناخدها دى بتودى على نفق مظلم».
آه؛ تذكرتُ الآن ما قاله ذلك الطبيب الشاب وهو يتثاءب: «عيب وحرام». كان يتحدث عن أدوية لا يحبذ شحصيا أن يوصى بها لعلاج المرضى. لم أتمكن من استنتاج أكثر من ذلك، وأنا أستمع إليه وهو يحدِّث إحدى الممرضات عن حالة معينة فى هذه المصحة، أو ربما فى مصحة أخرى.