رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

دفتر الدفاتير 1
فى وداع اماكن

جمال الغيطاني
«دفاتر التدوين» مشروع روائى بدأه الكاتب الكبير جمال الغيطانى عام 1996 باصدار الدفتر الأول «خلسات الكرى» ثم توالت الدفاتر، «دنا فتدلى» ، «رشحات الحمراء »، «نوافذ النوافذ»، «نثار المحو»، «رِنّ»، دفتر الإقامة.. مؤخرا صدرت الدفاتر السبعة فى مجلدين عن الهيئة العامة للكتاب بمناسبة اتمام الكاتب عامة السبعين غدا السبت.

دفتر الدفاتر لم ينشر بعد ، يتكون من عدة أجزاء ، الأول «فى وداع أشياء» والثانى « فى وداع أماكن» الذى ينشر منه «الأهرام» لأول مرة قسمه الأول.

 

مهندسين

عبر النافذة تقوم البنايات وفي الشوارع تحت المستشفي يلحلح الآلي ممدد بالاسلاك كيس الدم معلق لا أعرف من يطلق النار؟ سمعت الانفجارات من شتي العيارات لكن الآلي في المهندسين.. الحي الانيق!، المبني شاهق كله عيادات الاطباء مستشفي البرج الذي الوذ به عند الازمات يقع في الثاني والثالث ما بيني وبين الدكتور جلال السعيد يستعصي علي التفسير أخجل من الحديث عن عطبي إلي حين حتي وإن دوهمت بما لم أتوقعه. ماذا يعني مصيري والوطن يدمي،

النافذة تطل علي عدة مبان متجاورة أحدها يبدو مغايرا، سفارة ما،ربما للمباني هنا سمت الستينيات خطوط مستقيمة متقاطعة نوافذ أو شرفات متساوية شوارع متوازية جامعة الدول أحمد عبدالعزيز مسجد مصطفي محمود قريبا حشد يحاول الثبات لكن صوت الآلي يعني وجود مسلحين هذا غير مسبوق.

المهندسين المهندسين لم يكن للمنطقة وجود، منطقة خضراء المزروعات خضار وفاكهة من صفط اللبن ينتقل الحليب والخضار الطازج إلي أسواق القاهرة.

المهندسين لم يكن لها وجود قبل الستينيات، أعرف المنطقة الاسم الغالب زمن طفولتي - الدقي - كان ابي يعمل في وزارة الزراعة علي الأقل مرة في الشهر يصحبنا مقر انتظارنا وفسحتنا وقد جئنا المتحف الزراعي الأميرة فاطمة التي باعت مجوهراتها لتبني كلية الآداب عاشت هنا هذا قصرها ثمة شبه بين مبني الوزارة والكلية لم أعرف اسم المهندس طفلا خطوت في المنطقة الوزارة المتحف النادر كانا آخر البنايات، حدهما حقول ممتدة غير أن المباني كانت موجودة في المواجهة، ما بين شارع النيل والمتحف وقصر الأميرة شوارع انيقة محفوفة بالاشجار العتيقة، ميدان فيني، العجوزة. من الواجهات التي أراها حتي الآن مستشفي الكاتب، مبني ثلاثيني. له عندي الابيض والاخضر، دخلت مع والدي صبيا لزيارة أحد الاقارب، ثري ، عنده فدادين وتجارة، أراه علي البعد راقدا فوق السرير، إلي جواره منضدة فوقها نصف بطانية غطاه بشال ابيض، لا يقدر علي المستشفي إلا من لديه مال وخير، أحيانا أمر بها صدفة، استعيد عندئذ وجه الرجل مستسلما، غائر العنين. متطلعا إلي،فيما بعد زرت الشاعر كامل الشناوي، صوته العميق يعاودني، يأتيني احيانا كنت أصغي إليه يحدث صاحبه عبدالرحمن الخميسي الذي صحبته، كانت صلتي به وثيقة، لماذا جئت معه؟ لا أعرف، تحديقي إلي واجهة المستشفي لا يقدم لي عونا، فقط مجرد جلوسه علي حافة السرير صوته العميق، كان الحديث يجري حول شخص ملاحق من البوليس في الإسكندرية، يهيم في اللاموضع كثيرون بلاحصر، أرقب ملامحهم أو جزءا من بعضها أما الذين ذكروا علي مسمع مني فلا يمكن التعريف بهم أو استعادتهم سأصحب ذكري ما يخصهم معي ويسدل الستار اللامرئي علي كل شييء، فلأرجئ هذا، ما يعنيني المهندسين، عندما جئت إلي مؤسسة التعاون الإنتاجي القريبة من كوبري الجلاء. كنت اركب أوتوبيس 66، أختفي الآن، من احدي نوافذه رأيت نجيب محفوظ يمشي فوق كوبري قصر النيل، منه بدا وثاق علاقتنا، كثيرا ما مال علي يقول باسما

«فاكر كوبري قصير النيل؟» يقف حبيبي وأستاذي في «تمثال قميء» اختصر قامته الفارهة حتي في شيخوخته التي نحل فيها. اطلق اسمه علي اشهر ميدان في المهندسين لكن القوم يأبون تغيير الاسم.الميدان مازال عندهم سفنكس، تماما مثل شارع فؤاد، رفض الناس 26 يوليو ومازالوا. ظهرت المهندسين بالتدريج في البداية، قطعة أرض تخص النقابة، يبدو أن نفوذا قويا أدي إلي التخطيط والبناء، ظهرت العمارات. مجموعة قليلة في البداية ثم انطلقت في كل اتجاه.العمارات التي أراها ستينية، اليوم جمعة، أحاول استيعاب الضوء الاغسطسي الناعم، أرقب كيس الدم المعلق، تري إلي من تمت هذه القطرات من؟ بالأمس بدأ اطلاق الآلي مع بدء فض اعتصام رابعة، في السادسة صباحا اتصل بي يوسف، قلت له إنني مستيقظ منذ ساعة، ابلغني ببدء الفض، عدت إلي التطلع. هذا فراغ صيفي، الشارع المطل عليه المستشفي عريض نسبيا في البداية كانت المهندسين انيقة، مرتبة زمن المهنيين الستيني، في نهاية شارع احمد عرابي ظهرت مدينة الصحفيين كثيرون من الصحب استقروا فيها، توزعوا هنا وهناك. في البداية كان كل شيء هادئا، كأنه مرآة مضطربة للحي الانيق المقابل، اعني الزمالك، غير أن اضطراب البناء بدأ، الشوارع الانيقة تحولت إلي «حواري» لكنها تفتقد منطقية أزقة ودوب الجمالية، بقيت محايدا بالنسبة للمهندسين، لم أفكر في الاقامة بها وعندما ظهر عرب الصيف صرت أتجنبها، لا أقصدها إلا لضرورة.

يشتد اطلاق الآلي، فرق بين أن تسمع الطلقات في حرب، في صراع مهما اشتد لكن تظل له قواعده، وبين اطلاق نار تحت النافذة، قاتل للقتل، القاتل من أهلي والقتيل، طوال تجوالي في المهندسين تلك الموجودة بالفعل، وتلك المتشظية في ذاكرتي ، لم أتصور أن يجئ يوم يصوب فيه بعضهم الآلي إلي الأهل الحقيقيين، كنت غير قادر علي الاستيعاب، احتمال مهاجمتهم المستشفي وارد، لا رادع عندهم، لحظة غريبة لم أتصور ادراكي لها، يشتد اطلاق النار، يقول محمد ابني إن الضرب قريب من جامع مصطفي محمود، كان فضوله قويا، غير أنني رجوته الابتعاد، تراجع. جلس علي حافة سريره مصغيا، كنت مشدودا إلي سريري، متطلعا إلي كيس الدم، مستعيدا زيارة الدكتور جلال السعيد أمس، أمس الخميس الطرق مضطربه، قطع المسافة من المعادي إلى المهندسين في ثلاث ساعات، لم يكن عنده سواي، اطلق عليه « يوم المناظير» كان يجلس امامي هادئا. يتابع التقارير، ويتحدث بتلقائية سمحة، صريح هو، لا يخفي وضعا أو حالة،لكنه هذه المرة مهموم، حذر ، مشغول، انصرف قبل حظر التجوال بساعتين. قال إنه سيتصل من البيت، مستسلم تماما، هادئ، أصغي إلي اقترب الغروب، يقول محمد إنه رأي شابا يتخذ وضع الضرب، الطلقات تخرج في دفعات، مجهولين للقاتل يتساقطون عند عبورهم الطريق، مرة أخري اطلب من محمد الابتعاد عن النافذة، يمكنني تمييز لون العمارات التي تقع في حيز بعدي كلها بلوب الاسمنت،مجاور للنافذة بحكم وضع الآلات والاكياس التي تقطر داخلي ما يساندني في مواجهة ما لقيته، عند الغروب اخلو إلي الاماكن المفقودة مني، التي تركت عندي أثرا، طافت بي وجوه ممن سكنوا المهندسين، يكفي مصطفي نبيل النبيل، وشمس الاتربي، وفريدة والخال، وكل من اقام بالمهندسين بعد الازدحام بدأ انتقال القادرين إلي التخوم، اطراف القاهرة، زاد انقطاعي عن المهندسين، لكن ظل مستشفي البرج ملاذي، اضبط حالي عليه عند استشعاري الخطر، الخطر هذه المرة كشفه الدكتور جلال عندما وصله تحليل الدم، دمى الذي اختلط بدماء مجهولين وهبوني الحياة، عندما سمعت بحرق بنك الدم بكيت، دمعي صار قريبا هذه المرة، وشق صدري مرتين ولم أدمع، قلت مستنكرا «هل جري في أي حرب حرق بنك الدم..» قال الطبيب الشاب أرجوك لاتنفعل

وكان الليل والآلي يجثم علي المنطقة، وأنا أرقد مضطرا في المهندسين.

 

لوران

فضاء محندق، فراغ مضموم، بحر وبر يلتقيان، منذ تعرفي علي البحر لاول مرة في الاسكندرية وادراكي المدي اللامحدود علقت بالاسكندرية. خاصة في الشتاء عندما تخلو من الغرباء وترسو علي أهلها. لكل جزء منها مسار ومسعي، كان حلمي دائما شرفة، مجرد شرفة تواجه اللامدي. لا أعرف العوم. صلتي بالبحر جلسة وتأمل. حتي بعد تدهور الحال وظهور الابراج والعشوائيات الرأسية بقيت مزارات تخصني. أمضي اليها وأستعيدها وعندما تهدد وجودي اكثر من مرة. اعني التهديد القادم من الداخل بتعلق الانسان بالمكان. ليس بالضرورة الذهاب إليه. او التجوال فيه. يكفي استدعاؤه. هذا حالي مع لوران.

صاحب لي عمل في الاذاعة. زميله من أسرة ميسورة. أنيقة الحال قال ونحن في الفيشاوي: مارأيكم في زيارة للبحر. كنا نتوثب. نترقب. نطق الفكرة فلا نتردد. أعجب الآن. كنا طوال الوقت صحبة متضامة. في المقهي ليلا، في ديش عصرا. حتي كتبت ما كتبته، ذلك من الغاز الوقت. قال إن الاسرة تمتلك شقة في الاسكندرية. بالطبع خالية الآن. ابتهجنا، فلنقوم فورا. اشعت سيارته لنا وسلكنا الصحراوي بعد ساعتين. مضي كل منا إلي بيته، مجرد حقيبة صغيرة. مضينا عبر الطريق الضيق. كان الصحراوي يتسع للاتجاهين معا. انشدنا وصفقنا تحررنا من كافة القيودات. اقبلنا علي البحر وعندما بان الموج المنبسط كدت اذوب في الوان الازرق الشفاف. الوان الاسكندرية صريحة. واضحة تماما كما تبدو في لوحات وانلي. فيما تلي ذلك بدا ترحالي ويمكنني القول أنني وقفت علي شواطيء المتوسط. البلدان المطلة عليه. البحر واحد والماء واحد وسطحه واحد. غير أن لكل موضع أحواله وهيئته. اقول عن معاينة. ليس مثل بحر اسكندرية بحر. خاصة الميناء الشرقي. او بحري حيث سوق الطباخين وصاحبي فرج الذي أذاقني من الاسماك اعاجيب ولي عنه حديث طويل.

سألنا مدحت: اين البيت قال كلمة واحدة فقط، لوران

لوران، أشرق عندي حال وضوي شيء ما زال يرسل الي ما غمض علي حتي الآن، أعرف أنه يخبو، بل أنني أفقد القدرة علي المقارنة بين ما عرفته في الواقع المحسوس. وما أستعيده بعد حوالي نصف قرن. ربما اكثر. عندما سمعت الاسم بدأ توقي الي التعرف إلي معرفة الوضع سكنت الكينونة وسكتتني. شقة قي بيت من ثلاثة طوابق. كلها خشبية. اعني الشرفات. مطلة علي البحر ممتدة عريضة، غريب امرها. كأن الافق يبدأ من عندي. انبثق عندي شيء يحيرني. فضولي لمعرفة الاسماء عظيم. لكنني لن أحاول معرفة الأصل. من اين جاء. فعلقت به. وعن ضجيج الصخب وغنائنا الجماعي الا أنني كنت انسحب الي الشرفة. أرقب الظهور المفاجيء للغمام. لا اعبأ بالرياح، كل المباني المحيطة خالية. قال مدحت لا يوجد الا البوابين الصعايدة. حراس العقارات. غير أن لوران دثرتني، سافرت كثيرا واغتربت بعض الوقت لكني لا لوران فارقتني ولا انا فأيت عنها. لحقت بالضوء ذكرتها في اماكن نائية، وفي الخضم استعيد بهجتنا المتدفقة. حميمية الصحبة التي تبددت، لم يعد متبقيا من الشلة الا اثنين. واحد منهما هو انا. تسألني الممرضة عن سر دمعي. فاوشك علي النطق. إنه قطر المطر في لوران، لمحة مما تبقي علي ارض لوران، يدهشني الوقت. المسافة الفاصلة، غير أن لوران تظل ما قبل وما بعد. اما لمحة قطرات المطر فما تزال. لوران يا ذارفة دمعي. وما أصعب الدمع من الكينونة علي الكينونة، لوران. لوران.

 

 ام الغلام

ياه، هل انضم شارع ام الغلام الي الأماكن التي تبدو مستحيلة رغم أنه في متناولي .لولا خشية المبالغة لقلت أنني احفظ كل ملليمتر سواء تعلق الأمر بواجهات الحوانيت او المقاهي او الدروب المتفرعة خاصة مدخل كفر الزغاري اقطعه منذ ان كنت طفلا، ربما مع تواكب التحاقي بمدرسة عبد الرحمن كتحذا التي اتقنت فيها سر الحرف. لا أدري متي استمعت الي اسم ام الغلام ، منذ ذلك الحين وحتي الآن موقن من وجود سيدة تهيمن علي المكان علي الطريق المؤدي إلي ضريح مولانا، الي مشهد الحبيب الحسين. ام الغلام قديم ذكرها لاتوجد لافتة زرقاء بحروف بيضاء التي خطها احمد بك هواويني زمن الملك فؤاد، لوحاته منحت المدينة بعداً خفياً. لايمكن تخيل شوارعها بدون هذه اللافتات، عندما نزلت الاسكندرية وجدت اللافتات خضراء بحروف بيضاء فدهشت لذلك، عادة أقطع الطريق قادما من مقر اقامتنا المؤسس، من درب الطبلاوى، اول ما أبصرت منه الدنيا، اجيئ من الناحية المعاكسة، من ميدان الحسين، يختلف المشهد، كذلك السعي منذ مفارقتي درب الطبلاوي ، منزلنا اتجه يمنة، بداية قصر الشوق، عم رضوان السباك، مدخل حارة موسي، مدرسة عبد الرحمن كتخدا عند الغرفة المجاورة سلمني ابي الي ابراهيم افندي. علي جانبي جبهته وشم من عصفورين كان القوم فيما تلي ذلك إذا تنابذوا فيما بينهم يقولون «اصله داقق عصافير»، امام المدرسة خرابة، بقايا عمارة، في الخلفية مبني يعلوه برج حمام، لكن يخشاه الاطفال لمايتردد عن وجود غولة تختطف الصغار وتأكلهم، انأي بنفسي عنه، علي الناحية الأخري محل كشري عبد العاطي والذي أسس لمذاق هذه الأكلة الشعبية، الرائحة العبقرية خليط من تقلية البصل والصلصلة ، الارز وحمص الشام، عبده الكبابجي، رائحة تسري، منه بدأ تفضيلي للكفتة، خاصة إذا ما غمست بالطحينة، قرب مدخل كفر الزغاري مقهي اتجنبه صبيا وألازمه شاباً، يكوح مسجد، عمارة قامت في الستينيات، بها محل تصوير سريع «فوتوماتون» منه بقيت صورة نادرة وحيدة مع شقيقي اسماعيل، يمسك كتابا وارتدي غطاء الضوء الحمر، أشهر مسدساً ويلوح علي غضبا، عند اعتقالي استولي الضابط علي كافة مالدينا من صور قليلة. لاتوجد لي صورة قبل ذلك، فقط تلك، عند هذه العمارة يبدأ حضور ام الغلام مع أنه قديم، رحت وجئت اعواما عديدة قبل أن اعرف من القوم، لا أقدر علي شخص بعينه، بل لا أعرف كيف اكتملت التفاصيل، بعد أن احتز شمر بن الجوشن رأس الحسين، طارت من كربلاء، قطعت المسافة الي مصر في اربعين يوما، استقرت في حجر بائعة فقيرة يجلس ابنها الي جوارها ، جاء جند يزيد يبحثون عن الرأس الشريف، قدمت اليهم رأس ابنها، افتدت رأس الحسين، مكان المأوى شق في الجدار القديم لاينفذ منه العطر. لم أمر به الا وضمت اصابعي لاحتفظ بالعبق الجميل. في السنين الاخيرة احاطه المتشددون بسياج، بدعوي أنه حرام، غير أن ام الغلام باقية، مكان أثير، صحيح، شارع له خصوصية اتصالح علي حالي فيه. هذا صحيح، لكنني واثق من وجودها، لها جلسة امي وحنانها. قوام ما تغدق علي طفلاً ثم صبيا ثم شابا وأخيرا، وأخيرا ارفع بصري عبر النافذة، قطرات الندي والدم تتوالي، أغمض عيني. أكاد أشعر بتمليس ام الغلام، تنحني علي، تشملنى فأرجو منها قبلة الحياة لعل وعسي.

 

خوش قدم

 

حير الافكار الافكار بدرى

آه... آه... امان، امان يا لالالى..

له مدخلان متقاربان، متجاوران، إذا قصدته من الغورية بكون بداية، وإذا جئت من عمق الباطنية يكون نهاية لكنه فى كل الأحوال متصل، ولكل الظروف مؤد. يصب عندى، يبدأ منى، يحيرنى، إذا جئته من بوابة المتولى يكون المدخل إلى اليمين فيما يلى جامع الفكهانى أو الماردانى، يمت إلى الزمن الفاطمى، أما إذا قصدته من الأزهر، من الغورية، فيكون إلى اليسار لا اعرف، متى استقر على هذه الهيئة، سكة نافذة، أى تصل بين نقطتين متباعدتين، تطئر فيه المنحينات والحوارى الصغيرة المتفرعة، مداخله فى روحى متعددة، بعضها يمكننى تحديده، الاشارة إليه، تعبيدنه، بل الحديث عنه، دائما أشخص إليه وأنا واقف، مع أننى لم أعرفه فى البواخير إلا ملموما، مضموما إلى أمى، سمعت به لأول مرة منها، أول بيت نستقر فيه بعد بدء اغترابها عن جهينة وصولها إلى القاهرة لا.. إلى مصر، الصعايدة أو البحاروة يشتركان فى هذا.

 

«أنا رايح مصر»

«أنا جاى من مصر»

القاهرة تختصر الوضع كله، فى هذا الوقت المبكر عندما دخلت خوش قدم طفلا رضيعا على باط أمى كان معظم الخلق لا يعرفون بوجود مدينة اسمها القاهرة، المعروف «مصر» فيما بعد باحت لى خلال حواراتنا، كنت صبيا صغيرا جدا، أتوقف إلى جوار قائم السرير، كانت تتحدث إلى نفسها فهى غريبة، منقطعة عن الاهل، وسوف أعى فى متأخر ايامى معنى ذلك، كان خوش قدم أول مستقر يخصها، لكن أين؟ لا أعرف، أى مكان بالتحديد؟ لا أعرف، هكذا بدأ جهلى بما كان معى ، بما صار منى من غرائب الأمور أن الذاكرة لا تبدأ الاحتفاظ بصور ما يمر بنا أو نمر به إلا بعد عامين على الاقل، أول ما أعيه مع تمام العام الثالث لماذا تأخرت هكذا: لا أعرف لن أعرف، كم من أمور مررت بها لم أعرف عنها شيئا رغم تأثيرها عندى، تحيرنى أيامى فى خوش قدم، ترى من هى تلك الجارة التى سألت عن أمى واحاطتها برعايتها عندما ارتفعت حرارتها فى غياب أبى، عندما عاد فوجئ، قالت الجارة بخير، وأنه لن يكون إلا الخير، طلبت منه أن يذهب إلى اجزخانة رقية، ما تزال يليها دكان الطرابيشى الذى أصبح مع الزمن فرجة للسائحين، اختفى الطربوش بعد الثورة ـ يوليو ـ غير أن صاحبه لم يتخل عن العدة، قوالب من نحاس، أماكن حفظ القماش، شيئا فشيئا تخصص تماما فى عمائم الازهريين، لها شكل خاص، أحد شيوخ التوانسة كان عائدا من الحج، يبدو أنه اكتشف المحل، طلب طربوشا أقصر من المعتاد فى مصر، رسم هيئته فتم اعداد القالب هكذا عرف أهل قابس وسوسة وسائر الجنوب فى تونس الخضراء الطريق إلى المحل، صارت اغطية رءوسهم من عنده، كانت هيئتهم قريبة من الأهل فى جهينة أو درب الطبلاوى الذى تفتحت مداركنا فيه، لكن ثمة شىء يقول إنهم غرباء بدرجة ما، خاصة عندما يتطلعون، بعضهم تزوج واستقر، هكذا أحوال جميع أهل المغرب الكبير حتى قيام ثورة الفاتح الليبية، قطع قائدها الشاب طريق الحج البرى الذى استمر مئات السنين وأثرى الحياة العربية والاسلامية، مع اختفاء التوانسة صار الازهريون هم زبائن المحل الوحيدين، غير أنهم لا يمكن أن يقيموا دكانا لهذا بقيت المعدات ولم يغلق المحل، صار معلما، غير أنه مترب، فهل كانت وصية صاحبه جد الملاك الحاليين ألا يقفل بعده، وألا يتغير نشاطه، والحق أنهم حافظوا على ما طلبه رغم صعوبة الوضع، محل الطرابيش واجزخانة رقية من المعالم، لا... دكان البسبوسة الشهير للحاج محمود أمين، مذاق عجيب لم أعرف مثله، فريد، البسبوسة بالتحديد، برع فيها حتى أن القصر فى عابدين صار من زبائنه كانت الصينية تخرج ساخنة بعد الغروب فتصل القصر دافئة عند نقلها يعبق المسار بالرائحة الذكية الفريدة، نسيم منها يدخل إلى خوش قدم الحق أن ثلاثة أشياء يمر أريجها وجوهر عطرها بالحارة، أولا بسبوسة الحاج امين، ثانيا عبده الكفتجى، ثالثا القهوة الرئاسية، محل صغير عند مدخل سكة المغربلين، رجل هادئ جاء من رشيد فى أول القرن أتى معه بتحويجة للقهوة انتشر أمرها وصارت مطلبا لكل من تولى مشيخة الأزهر، كذلك لعلمائه ومجاوريه، بل إن بعض الملوك والحكام أرسلوا فى طلب هذا البن العجيب، وممن اتقنوه واستلطفوا الامر فيه جمال عبد الناصر، وكان مندوب الرئاسة لا يقبل الكيس إلا بعد دفع الثمن، يؤكد: هذا للبيت، وما كان للبيت لابد أن يدفع ثمنه من جيبه، البعد الرئاسى من معالم الطريق إلى خوش قدم، كل من عرفه يقول بنان خوش قدم رغم أنه جغرافيا يقع فى المغربلين، غير أن حالى مع خوش قدم غريب، يأتينى الآن مطلع يأخذنى «فؤادى أمره عجيب...» أقف فى مكان ما من حارة، من سكة خوش قدم، أضم اصابعى أبحث عن ثدى أمى، تدارى نفسها قبل أن تطمعنى إياه، معقول أننى لا أعرف شيئا عن هذا عشته ولا أعى حتى صورة، ليتنى اهمتمت بالاستدلال على أول موضع يخص امى، ذكرت امامى شيئا عن هذه الجارة الطيبة من أهل مصر علمتها اشياء لم تكن توجد فى جهينة بالتحديد طريقة خاصة بكنافة رمضان، وقلى السمك، بقيت الكنافة معى كانت تسويها على مهل بالغ، رغم أن أختى أخذت عنها، غير أن الطعم المكتمل ذهب معها، راح مع مذاقات شتى لم تعد حتى فى ذاكرتى.

 

خوش قدم.. خوش قدم خوش يعنى حسن، يعنى السعد، فارسية تركية، كردية، عندما سافرت إلى شمال العراق، وعرفت جمال الجبال وهيبة الممرات والمياه التى لم يلمسها بشر، فى سوق اربيل أصغيت إلى عجوز كردى يقول: خوش والله فى البصرة سمعت من يتغزل فى انثى: خوش غصن، تحيرنى الحارة القاهرية عندما أحاول التعرف على المكان، الذى عشته، ولا أعرفه، لا أحتفظ منه بلمحة، هذا بداية تعقد المكان يوجد فى الواقع ولا يوجد عندى رغم معرفتى به، حتى وصلت إلى حال تجوالى فى حارة بعينها، أذكر منها الواجهات والمعالم غير أننى أغترب فكأنى لم أطأ ارضها، خوش قدم ماثلة مألوفة، غير أن وثيق صلتى يرجع إلى الغناء، إلى الموسيقى كان من روادها فى الزمن القديم الشيخ زكريا أحمد فى الحارة مسجد يتيم صغير، متوحد، لا يتصل به بناء اسميه اليتيم لأنه قائم بمفرده، ليس له ظل حتى، يبدو أن الشيخ زكريا أحمد أحيه ايضا، بل اعتلى مئذنته فجرا وعصرا وأوقات الاعياد، يقال إنه فى نهاية الثلاثينيات رفع الاذان بطريقة لم تتكرر فى أسماع الخلق، أذان جميل من سبعة مقامات كل من سمعه وقتئذ لزم الصمت حتى الطيور فى الفضاء. فى الحارة وقف المارة شاخصى الابصار مرهفى الاسماع أشتهر أمر الاذان الزكراوى بين الخلق فصار البعض يشد الرحال إلى خوش قدم ليصغى ويسمع، من هؤلاء صبى ضرير لزم الحارة، عرف بجمال صوته وقدرته على قراءة القرآن بتجويد مرهف لم يعرف مثله، غير أن حاله تبدل بعد تعرفه على الشيخ زكريا، أحبه فلزمه وأخذ عنه اسرار المقامات، وصنعة الإلحان، وجميل الطباع، اعتلى المئذنة قبل بلوغه العشرين وعرف الناس صوته الخاص، عاد المارة إلى الوقوف اثناء الاذان حتى انهم يسدون الطريق.

 

فى السنة الرابعة والستين اقترح علىّ عبد الفتاح الجمل أن نذهب معا إلى خوش قدم لنستمع إلى الشيخ امام قال انه، «ما حصلش» هكذا كان مفتتح تعرفى بخوش قدم، أى الشيخ امام مدخلى إلى السكة وأهل الحارة، أصغيت إلى صوته القوى، الرخيم، المتصل، المؤدى، أول ما سمعت منه «ضيعت مستقبل حياتى» وعندما أتصل حالى بالطرب الحلبى الجميل صبرى مدلل، وأخبرته عن ذلك العصر عندما نالتنى خضة لحظة بدء الشيخ امام المطلع الصعب، قال العم صبرى ونحن نسعى فى السوق القديم المغطى ـ دمرته عصابات الارهاب بلا رحمة فى مطلع العقد الثانى من الالفية الثالثة ـ قال إنه سمع عن أداء الشيخ لهذا الدور الصعب، أصعب الادوار العربية على الاطلاق لحنه الشيخ سيد وهو فى حال وعر، لم يعرف اسمه قلت للحاج صبرى: الشيخ امام انشده ثلاث مرات من أجلى، قال صبرى مدلل: إذن ستدخل الجنة كان الشيخ مشهورا فى ذلك الوقت بأغانيه، النقدية، الجريئة والتى بدأها بعد لقائه بأحمد فؤاد نجم الذى ترك المواضع القاهرية الأخرى ولزم خوش قدم، صار من أهلها واحبابها وارتبط بها، أصبح جزءا منها يسكن البيت الذى لابد من اجتياز ممر يجبر على الانحناء يؤدى إلى سلم ضيق، لابد من الانتباه جيدا، وإلا اصطدم الرأس بالسقف المنخفض فى هذه الغرفة بعد يونيو عام سبعة وستين تكون جيل وجرى تكوين ورفرفت روح، كان لقاء نجم بامام حدثا عجيبا دبرته الاقدار، خوش قدم أصبح لها حضور مغاير دائما كان الشيخ بتوسط القعدة، اينما جلس هو مركز المرأة، عودة إلى صوره، ورغم انه ضرير، إلا أنه شاخص فى ذاكرتى إلى منطقة ما يصعب تحديدها، ذاع أمر نجم والشيخ صار رمزا على حقبة ودلالة على روح جديدة رغم الهزيمة، حاولت مؤسسات النظام اللف من هنا والمجئ من هناك، حدث أن دبر القوم فى المباحث حملة، مازلت أذكر عنوانا عريضا فى صفحة حوادث القبض على امام ونجم لتعاطى المخدرات، ثم تطور الأمر فى عنوان اليوم التالى إلى التجارة، صورة لهما بجوار تل صغير من طرب الحشيش لكن ما لم ينشر أن الشيخ تحسس الاكياس وعلق ساخرا: حلم ده ولا علم!.

 

فى بيت محمد جاد بالعجوزة كان معظم الحاضرين من الشباب الذىن مر معظمهم على السجون والمعتقلات كان ما يبدعه نجم وامام فريدا، فيه التحدى وميلاد روح جديدة، كنت محبا لمحمد جاد، متردداً عليه فى مسقط رأسه بركة السبع، مع تصاعد الانسجام، توقف الشيخ لضبط العود صحت راجيا: ضيعت مستقبل حياتى..

 

رغم استنكار الحاضرين، جاءوا للقصائد اللماحة، لبقرة حاحا والنورى النورى وغيرهما، انها المرة الأخيرة التى استمع فيها إلى الدور الصعب، اهدانى صاحب حميم فلاشة عليها كل ما أدى الشيخ أصغيت إلى أكثر من مائة أغنية أداء عجيب، مازال الرجل فى حاجة إلى اكتشاف مرة أخرى اجتهدت لأجد احد الادوار التى سمعتها منه، لم أصل، صارت هذه الادوار مدخلا إلى خوش قدم، ثمة مداخل محسوسة معاينة، أما مداخل الروح فمحيرة، لا يمكن تحديدها، أو تعيينها أو سلوكها، تسفر عن نفسها عندما تكون الحاجة، قريبة، خوش قدم بالمعاينة لكنها بعيدة، نائية مع تباطؤ الانفاس وطول التحديق إلى الدائرة المقتربه الدانية، آه يا مقام الصبا، أجدنى رافعا يدىّ، مناديا: يا خوش قدم وما من مجيب..

 

«البقية الاسبوع القادم»

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق