ومن المفارقات المثيرة التى تدعو للأسى ، أن يرى المراقب وريثة الإمبراطورية العثمانية وهى تنجرف إلى أتون من حكم الفرد ، والدليل على ذلك تصريحات ساستها ، التى لم تحد حتى ولو بحرف واحد عن نظيرتها التى يتشدق بها حكام ما يوصف بــ " العالم الثالث " الذى رفض الرئيس السابق عبد الله جول بشدة ما يذهب إليه البعض بوضع بلاده ضمن فضائه ، والاستفهام الذى يتبادر إلى الذهن ترى هل جول مازال عند قناعته هذه ؟
لعله لو سمع ما قاله محافظ المدينة وصيب شاهين ، ربما غير رأيه ! فشاهين المقرب جدا للرئيس رجب أردوغان ، خرج بكلمة للكافة ، قائلا إن الغالبية العظمى من المواطنين، لم ينساقوا للتظاهر تلبية لدعوات مجموعات وصفها بالهامشية تارة والقلة القليلة تارة ثانية ، والتى سعت لزعزعة الاستقرار والإخلال بالأمن. إذا كانوا كذلك وهذا غير صحيح ، لماذا إغلاق حركة المرور فى 14 شارعا رئيسيا وفرعيا يؤدى إلى ساحة تقسيم ، ووقف المترو ، وحشد الآلاف من رجال الشرطة المدججين بأسلحتهم ومصفحاتهم للحيولة دون اقتراب أى شخص.
وصيب ، لم يتحدث عن البلطجية الذى قاموا بمهام أمنية بالوكالة فى ظاهرة لم تشهدها تركيا على مدى تاريخها الجمهورى وهى إحدى طرائق التظم المستبدة ، فى الاستعانة بــ " الشبيحة " الذين أسندت لهم تعقب المتظاهرين الذين يفرون هربا من الغاز المسيل للدموع يحتمون بأزقة لا تدخلها مدرعة الشرطة لضربهم وتأديبهم .
لماذا كل هذا الهلع ؟ إنه الخوف والرعب من الزحف إلى الميدان ثم الاعتصام فيه ، فى إعادة لذكرى أحداث جيزى بارك الشهيرة نهاية مايو العام قبل الماضى والتى انتهت إلى مأساة وقتل عزل أبرياء ، ومازالت تداعياتها مستمرة حتى اليوم ، ويبدو أن أهل الحل والعقد تناسوا عمدا أن بقاعا عديدة فى أركان المعمورة احتفلت بعيد العمال فى حين تصدر قمعهم لمواطنيهم فى مشاهد مؤلمة ميديا العالم.
أما اردوغان فلم يعبأ بردود الفعل المنددة للقسوة إذ بقى فى عالمه الأسطورى ، بيد أنه يتحدث وكأن شيئا لم يحدث ، فمسيرته لن يوقفها أى شئ ، فتركيا التى وصفها بالقديمة عليها أن تفسح الطريق لأخرى جديدة البتة ، ومضى فى ذات اليوم الذى كانت إسطنبول تئن من القسوة ، خلال لقاء بالعاصمة أنقرة ، ينسج الثوب الذى سترتديه بلاده بعد أن تكون قد نفضت ثوبها البالى المترهل ، مشددا على أن قميصها الحالى لم يعد يتسع لتركيا الحديثة، ثم منتقدا خصومه "البعض منزعج من النظام الرئاسى، لا يرغبون فى نهضة البلاد، ما زالوا يجرون حملات انتخابية بنظام أعوام 1970 و1990، حقا ليس لديهم رؤية مستقبلية " ، أما هو فيمتلكها من خلال كلمتين ساحرتين، هما الاستقرار والثقة ، فإن لم توجد ثقة لا يمكن أن يحل الاستقرار، ودون الأخير لا يمكن أن تتحقق النهضة فى البلاد" .
إنها إذن نفس نغمات المستبدين ، ولم يكن الأمر مصادفة فى أن يصرخ الآلاف فى الأول من مايو ، تنديدا بالفاشية التى تحكم بلادهم بعد أن غابت عنها دولة القانون وتراجعت عن مبادئ دستورها الأساسية التى تضمن استقلالية المؤسسات ، تلك التى يراد لها أن تظهر فى واحدة فقط يمسك بزمامها أردوغان لوحده دون غيره ، ولم يكن هو نفسه مغاليا حينما قال إن نظامه الرئاسى سيجعل من تركيا جمهورية متفردة لا تدانيها أخرى ، ونسى أن يكمل عبارته فأكملها له مناوئوه " نحو الديكتاتورية ".
فى هذا السياق لم يعد نفور القارة الأوروبية العجوز من تفاقم الأوضاع الاناضولية وتآكل الديمقراطية فى بلد يريد أن يكون جزءا لا يتجزأ منها ، أمرا مفاجئا ، وطبيعى أن تصرح " باربرا لوشبيهلر " السياسية الألمانية البارزة مؤكدة أن حكومة حزب العدالة والتنمية لا تتقبل الانتقادات الموجهة إليها ولا تريد أن تعترف به ، جاء ذلك خلال مشاركتها ببرنامج متلفز على فضائية " سامان يولو" الإخبارية التابعة لجماعة فتح الله جولين والذى لا يزال رئيسها هدايت كاراجا حبيسا وراء الاسوار ، وقالت إن نظام العدل انهار، ودعت أوروبا إلى اتخاذ ردة فعل حازمة تجاه موقف أنقرة الاستبدادى .
وأضافت " باربرا لوشبيهلر " التى سبق وترأست اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان فى البرلمان الأوروبى إن الدعاوى القضائية المفتوحة ضد حركة الخدمة التابعة لجولين تظهر للجميع الأبعاد الخطيرة للتدخلات السياسية فى الجهاز القضائى ، وأوضحت أن استقلالية القضاء تشهد ضعفًا فى الفترة الراهنة ، ثم لفتت الأنظار إلى أن ثقة قطاعات عريضة من الشعب فى الحكومة ستختفى وتندثر مع مرور الوقت ، وأفادت لوشبيهلر التى تتولى منصب المتحدث باسم السياسة الخارجية لحزب الخضر ، بأنها ترى أن السياسة الخارجية التركية تحولت إلى خيبة أمل كبيرة وأخرجت البلاد من المعادلة الدولية ، وأن صورة تركيا كنموذج للشرق الأوسط تلاشت وليس لها وجود ، وهو ما يصفه عمر نور الدين الكاتب بصحيفة زمان بزوال البريق وانكشاف الحقيقة .
وبتفصيل أكثر ذهب قائلا سقط النموذج التركى ، فى فخ الأطماع الشخصية لأصحاب الأيديولوجية الحزبية الضيقة ومعتنقى الفكر الاستقطابى ، ومن أعادوا إنتاج الوصاية المدنية للإسلام السياسى من رحم الوصاية العسكرية، فى ثوب فاشى بغيض ، وتحت قيادة حزب العدالة والتنمية انحرفت عن مبادئ وقيم العلاقات والقانون الدولى ، فضلا عن سحق الديمقراطية والحقوق والحريات ، وها هو أردوغان، ينظر إلى كل شئ فى تركيا على أنه يخصه وحده : الدين، الوطن، الحكم، الحزب، القانون، الحرية، التعليم، الاقتصاد والسياسة بكل مشتملاتها ".
فهل من غد مغاير .. هذا هو السؤال؟؟