هذا هو أكثر مايلفت النظر في هذا الكتاب الذى صدر اخيرا لعبده مباشر )انا وعبد الناصر والسادات) عبر سطور من هذه السيرة التى تتماهى مع الواقع بوعى شديد.. حيث حرص صاحبها منذ البداية عمليا على تأكيد معنى الوعى بحركة التاريخ.. وأهمية الشهادة الحية لتلك الحركة .
وأكثر مايلفت النظر هنا أن هذه الشهادة - التى يمكن أن تعرف في حركة التاريخ بالتاريخ الشفهى Oral Historyلما فيها من عفوية ومشاركة- ينجح صاحبها فى تقديمها بشكل شديد التواضع والبساطة. إنه يعترف منذ المقدمة على تسجيل أنه كان» شاهدا في كثير من الأحيان على بعضها ومشاركا في أحيان أخرى في بعض آخر» وسرعان مايضيف بتواضع شديد -أن ما أسجله »ليس أكثر من رؤية ذاتية وليس تاريخا أو حتى محاولا تصحيحه«.. وهذا هو وعى المؤرخ الواعى وإن ارتدى ثوب البساطة والصدق.
هذا أكثر مايلفت النظر في هذ السيرة منذ بداياتها؛ الوعى الشديد للدور الإيجابى الذى قام به، والتواضع الشديد عبر مايقدم ويسعى إليه
الشاهد لم يكتف هنا بنقل الحدث بوعى وإيجابية شديدين بل حرص على أن يكون مشاركا فيه بشكل عملى ، فعلى الرغم من صفة الصحفى في البدايات فقد سعى عبده مباشر طيلة تاريخه إلى الهبوط الى نهر التاريخ راغبا فى التغيير لا مشاركا وحسب.. فعرفناه يمضى إلى المشاركة »كمتطوع مدنى بالكوماندوز في المجموعة »29« للعمليات الفدائية، ومشاركا بعد ثورة يوليو فى منظمة الشباب لدورتين.. وتستمر مشاركاته الواعية من عصر عبد الناصر إلى زمن السادات.. وصولا إلى زمن مبارك.
إن الراوى هنا هو المشارك في العمل العسكرى ضد الإنجليز، وهو المحرر النشط لحركة النضال ضد الغرب، وهو الشاهد الواعى داخل بلاط صاحبة الجلالة وخارجها.. فالمعروف عنه أنه سعى على سبيل المثال للقيام بدور مغاير في الفترات الحية من تاريخنا في زمن عبد الناصر، ثم مع الرئيس السادات، للمشاركة في الجانب الإيجابى، حين كان يكتب من آن لآخر خطابات الرئيس حين يطلب منه ذلك. كما أنه كان أكثر صدقا ووفاء للواقع العربى. وعلى سبيل المثال يبلغه وزير الحربية بأن السادات طلب منه« كتابة الكلمة التى سيلقيها«.. وفى كل مرة تصل الكلمة لمكتب رئيس الجمهورية مكتوبة ..) و(.. وكنت أكتب النص الصالح للنشر وكلمة الرئيس قبل ان تمضى في الطريق الرسمى..
إن أكثر مايلاحظ هنا أن عبده مباشر لعب أدوارا كثيرة بوعى وبضمير نقى تماما. وقد بدت هذه الأدوار في كثير من الأحداث التى يرويها لنا.. وعلى سبيل المثال فإن الكاتب عندما تطوع في عصر عبد الناصر في المجموعة 29 قتال »كرائد» في العمل العسكرى فإنه حرص فى الوقت نفسه على أن يظل في عمله الصحفى.. .. وهو الذى جاهد في الفترة النضالية في الستينيات، فبادر إلى قطع البعثة الدراسية التى كان متوجها إليها في ألمانيا ازاء نكسة 67 ليظل في الوطن يواجه التحديات المتوالية .. وهو الذى كان واعيا لأن نصر الآخر- الاستعمار لم يكن لقوة فيه بقدر ماكان لقصور فينا نحن ؛ فالكاتب يشدد على أن ماحدث في يونيو67 لم يكن لعبقرية وذكاء القيادات الإسرائيلية بل إلى »تخلف العدد الأكبر من الزعامات العربية التى تحملت المسئولية على امتداد هذه الفترة. والأمثلة هنا تشير إلى القصور الذاتى خلال نصف قرن أو يزيد« .. وهو واقع يسهب الكاتب فيه كثيرا. فالملك الأردنى فى شرق الأردن » كان يعمل من أجل توسيع مملكته .. والقوات العراقية تركت ظهرالقوات المصرية مكشوفا أمام القوات الإسرائيلية.. وتقاعست سوريا عن دفع قواتها إلى مسارح العمليات .. إلى آخر هذه المأساة الدرامية التى عانينا منها كثيرا فى الأربعينيات.. وهكذا ولدت دولة إسرائيل بفضل أخطاء وخطايا الزعامات العربية.. فضلا عن مواقف هذه الجماعات التى اكتفت بالروح السلبية الفردية دون الوعى بالعامل العربى المشترك.. وهومايفسر النكبة في عام1948 ثم عدوان 1956 مرورا بالسقوط في المستنقع اليمنى قبل نكسة 1967 إلى غير ذلك حتى اليوم.. وهكذا تعود هزائم العرب إلى تقاعس العرب، وركونهم إلى النوم العميق، في زمن أصبح فيه الوعى هو السلاح الأول لمعركتنا ضد الغرب الصهيونى والأمريكى ..
نحن إذن أمام سيرة ذاتية، بل وسيرة «جمعية»، سعى صاحبها إلى وضع يده أكثر من مرة على بيت الداء، وإلى ممارسة رحلة الكفاح داخل بيت صاحبة الجلالة وخارجها لسنوات طويلة؛ متنقلا بين السيرة والشهادة والفعل الإيجابى الكبير.
الكتاب: أنا وعبد الناصر والسادات
المؤلف: عبده مباشر
الناشر: دار المعارف 2015