رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

ثمانية أيام

محمد سلماوى
ثمانية أيام من الأهوال كانت المدة الفاصلة بين مصر وإيطاليا فى ذلك المركب الصغير غير المرخص له بالإبحار بين البلدين. كنا ١٤٢ شابا، أو هكذا كان عدد من وصل منا الى البر الآخر، بعد أن غرق من غرق، وقتل من قتل، واختفى من اختفى.

تركنا جميعا دفء بيوتنا ورحلنا نسعى للرزق حيثما نجده، خرجنا نبحث عن مستقبل أفضل، لنا ولذوينا الذين وضعوا علينا كل آمالهم فى الحياة الكريمة. ثمانية أيام مرت علينا كأنها ثمان سنوات من العذاب، واجهنا فيها الجوع والعطش، واكتوى جلدنا بأشعة الشمس فى النهار، وارتجفت أوصالنا من صقيع الرياح فى الليل. ثمانية أيام قابلنا فيها الموت وجها لوجه عدة مرات فى اليوم الواحد.  


ريشة الفنان: د.محمدالناصر

فى قرية العتارسة التابعة لمركز البرلس بمحافظة كفر الشيخ تجمع ما لا يقل عن مائتي شاب دفع كل منهم خمسة آلاف دولار لنقله إلى البر الآخر للبحر، البر الآخر للحياة، حيث توجد فرصة للعيش، وربما للثراء. ضم الجمع الذى وقف على الشاطئ ينتظر دوره فى الصعود إلى المركب شبابا من مختلف الدول العربية، فإلى جانب المصريين الذين كانوا الأغلبية، كان هناك سوريون وليبيون وعراقيون ويمنيون وسودانيون وصومالى وشابان من اريتريا. ياله من جمع عربى مهيب! أهذا ما آلت إليه الوحدة العربية؟ ألم يعد هناك ما يوحد العرب غير رغبتهم فى الهجرة من أوطانهم؟

كانت والدتى قد باعت أساورها الذهبية التى ادخرتها "لخرجتها" كما كانت تقول، حتى لا نعجز حين توافيها المنية عن شراء كفنها ودفع بقية نفقات الجنازة. واقترض لى أحمد إبن عمى  بقية المبلغ من أصدقائه على أن يرده لهم بالتقسيط من دخله الشهرى بالفرن الذى يعمل به. لكن كيف تمكن بقية الشباب من تدبير هذا المبلغ؟ إن بعضهم يبدو فى حالة مزرية حقا. والبعض الآخر جاء من خارج البلاد. لابد أنهم تحملوا نفقات إضافية للسفر. كيف تمكنوا من تدبيرها؟

كان الوقت ليلا وكانوا جميعا نياما على رمال الشاطئ ينتظرون أن يؤذن لهم بالصعود إلى المركب الذى وقف بعيدا عن الشاطئ حتى إذا ما داهمته السلطات إدعى أنه مركب صيد وأنكر أى علاقة له بنا. بدا المركب من بعيد أصغر مما كنت أتوقع. كيف يمكن أن يتسع لكل هؤلاء الشباب؟ أدركت أن اليقظه مهمة، حتى إذا ما نودى علينا كنت فى مقدمة من يجدوا لهم مكانا على المركب.

لم يغفل لى جفن فى تلك الليلة التى ظل القمر يشاغلنا فيها، فتارة ينظر إلينا بضوئه المنيّر وكأنه يحصى عددنا، وتارة أخرى يعطينا ظهره فتحجبه السحب ويعم الظلام. بعد منتصف الليل بقليل نادى علينا أحد الرجال من فوق قارب مطاطى برتقالى اللون، فتدافع الجميع داخل الماء يتسابقون لركوب القارب الذى سيوصلنا إلى المركب، تاركين ورائهم على الشاطئ ما كان معهم من متاع والذى لم يكن كثيرا على أية حال. مجرد لفافة تحمل غيارا أو بعض الطعام. كان سباقا من أجل البقاء، أداته ساقان تحت الماء تتلاحقان لقطع المسافة إلى القارب، وذراعان فوق الماء تجدفان لإزاحة الآخرين عن الطريق. فوق القارب وقف الرجل، وكان قوى البنية، يحمل فى يده عود خيزران بمجرد أن امتلأ القارب أخذ يضرب به كل من يحاول الصعود وهو يقسم يصيح: "حارجع تانى يا ولاد الكلب!". ثم أدار موتور القارب وانطلق بالدفعة الأولى من الشباب  إلى المركب.

قبل أن يعود إلينا القارب من جديد كنا قد مضينا نسبح فى الماء لنلقاه فى منتصف الطريق خشية ألا يكون لنا مكان هذه المرة أيضا. لكن بعد بضعة أمتار بدأت الأرض تميد تحت أقدامنا إلى أن اختفت، فأكمل المسافة إلى القارب من يجيدون السباحة، وتخلف من لا يجيدونها. وقد علمنا بعد أن صعدنا فى النهاية إلى المركب أن الشاب الصومالي غرق قبل أن يصل إلى القارب ولم ينتبه له أحد. 

كانت تلك هى التصفية الأولى فى هذا السباق الذى بدأت أتساءل إن كان تسابقا نحو الحياة أو الموت، تخلف فيها ما لا يقل عن ثلاثين أو أربعين شابا دفعوا ما دفعناه لكن لم يصبهم الدور هذه المرة، فظلوا على الشاطئ يصيحون ويتوعدون، لكن سرعان ما توارى صياحهم  خلف هدير الأمواج المتلاطمة على جانبى المركب وهو يشق طريقه بنا وسط البحر. أما التصفية الثانية فكانت فى عرض البحر حيث الأكل شحيح، والماء غير كاف، والتكدس يؤدى الى التنافر والعدوانية، بل والقتل. 

...................................................

وسط برودة الساعات الأخيرة من الليل جلست ارتجف على هذا المركب الذى لا يوجد به إلا قمرة واحدة ينام بها قائد المركب الريس عباس. كان الشاطئ قد اختفى تماماً ولم أعد أرى حول المركب إلا الظلمات وأطراف الأمواج تلتمع بيضاء فى ضوء القمر ثم تختفى كأن لم تكن. تغوص فى الأعماق السحيقة لهذا البحر الذى لا حدود له. رفعت رأسى إلى السماء فشاهدت القمر وقد خبت أشعته الفضية وبدا لونه رماديا باهتا أمام أشعة الفجر الوردية التى بدأت تشق الظلام فى الأفق البعيد، ثم ما لبث أن توارى من جديد خلف السحب.  

فجأة تقيأ شاب أصيب بدوار البحر، فانتفض زميله الجالس إلى جواره وأخذ ينهره بعد أن  اتسخت ملابسه، فنشأت بينهما معركة بالأيدي سرعان ما قام أحد المصريين بفضها طالبا من الشباب الصبر وتحمل بعضهم البعض فى هذه الرحلة التى كانت لاتزال فى بدايتها. 

اقترب منى شاب يحيينى ويسأل إن كان من الممكن أن يجلس إلى جوارى. أدركت أنه لابد يشعر بالوحدة ويبحث عن صحبة فى هذه الرحلة الموحشة. كان شابا نحيلا جميل الوجه. أثيرى الهيئة. قال أنه سورى وأن اسمه فادى. بدا كأنه يعرفنى فكلما قلت له شيئا عن نفسى كان يطأطئ برأسه أو يكمل ما أقوله، وبعد قرابة الساعة كان كل منا يعرف كل شىء عن الآخر، وكأننا نعرف بَعضُنَا لبعض منذ سنين. ثم حين بدأت شمس الصباح تطل برأسها من بعيد استأذن فادى فى الانصراف واختفى.

كانت البطون قد بدأت  تئن من الجوع، وشعر البعض بنداء الطبيعة يلح عليهم لقضاء حاجتهم. هنا ظهر الريس عباس لأول مرة . كان رجلا بدينا يرتدى جِلْبابا أبيض اتسخت أطرافه رغم أننى لم أشاهده طوال أيام الرحلة يقوم بأى على المركب. كان وجهه فظ التقاسيم وصوته أجش. وقف فى مقدمة المركب وكأنه على منصة رفعته فرق الجميع، وأحاط به خمسة من الفتوات تعرفت من بينهم على صاحب الخيزرانة الذى نقلنا فى القارب. كان مشهد الرجال الخمسة مخيفا وقد انتفخت عضلاتهم منذرة كل من يخرج على القواعد أو يخالف النظام. أما ذلك النظام فكان ما أعلنه الريس عباس من فوق منصته: "مافيش أكل على المركب غير عيش وبس. ماعندناش غموس. والمية يدوبك على قد الرحلة. مافيش زيادة. ده مش فندق. احنا مش جايين هنا نضيفكم. إللى عايز يغسل وشه ولا هدومه فى البحر، واللى عايز يعمل زى الناس برضه فى البحر. مش عايز وساخة على المركب. إللى حايمشى مظبوط حايكمل معانا، وإللى حايعمل غير كدة مش حايكمل. حانقلبه فى البحر". 

هبطت كلمات قائد المركب علينا جميعا كالصاعقة. أصابنا الوجوم فى هذا الصباح الأول للرحلة، فلم ينطق أحد بكلمة. بمجرد نزول الريس عباس من على مقدمة المركب بدأت فتواته فى توزيع الطعام. رغيف خبز واحد لكل راكب هو زاده طوال اليوم. يأكله كله فى الصباح أو يقسمه على ثلاث وجبات. لكن مع الوقت تعود الجميع على أكل الرغيف كله بمجرد استلامه، بعد أن وجدوا أن أكل جزء منه فى الصباح وادخار الباقى لبقية اليوم كان يدفع البعض لسرقته أو الاستيلاء عليه بالقوة. أما الماء فكان فى البداية ملء كوز واحد فى اليوم، لكن ذلك لم يكن كافيا فى نهاية الرحلة فنصحنا البعض بألا نبول فى البحر وإنما نشربه حتى لا نصاب بالجفاف الذى يمكن أن يؤدى لموت محقق. 

لم تكن تلك كل الأهوال التى ادخرها لنا القدر فى هذه الرحلة. فقد نشبت عند الغروب معركة ضارية بين اثنين من الإريتريين، كان أحدهما من قبيلة البجة والثاني من الأسورتا. وقد حاول البعض تهدئتهما قبل أن يصل الأمر إلى مسامع الريس عباس ورجاله، لكن أحد المتعاركين أخرج فجأة مطواة من ملابسه وطعن بها الآخر. وحين وصل رجال الريس عباس كان الشاب المطعون قد فارق الحياة. أمسك الفتوات القاتل فحاول استخدام المطواة للدفاع عن نفسه، لكنهم أوسعوه ضربا إلى أن حضر الريس عباس فأمر بإلقاء الجثة فى البحر على الفور، وتقييد القاتل وحبسه فى قاع المركب. وما أن ألقيت الجثة الدامية فى الماء حتى اتسعت بقع الدماء فى البحر فأحالت لونه الأزرق الداكن أحمرا قانيا، وبدأت أسماك القرش التى أحاطت فجأة بالمركب تتعارك فيما بينها على تلك الغنيمة المفاجئة، وأخذ بعضهم يضرب بذيله بدن المركب أثناء تلك المعركة الوحشية التى احتبست لها الأنفاس. 

ظل طائر الموت يحوم فوق المركب بجناحيه السوداوين طوال فترة افتراس جسد زميلنا الإريتري، فخيّمت على المركب حالة من الرعب والكآبة أخرست الجميع فلم يتكلم أحد إلى أن أنزل الليل أستاره السوداء وحل الظلام. عندئذ وجدت فادى يقبل على وهو يرتجف وعلى وجهه علامات حزن دفين. جلس الى جوارى دون أن يتكلم فأحطته بذراعى. شعرت أننى أحتضن نفسى كى أهدئ من روعى. أردت أن أبكى فوجدته يلقى برأسه فى صدرى ويبكى معى. امتدت ساعات الليل وهو إلى جوارى وذراعى حوله إلى أن نمنا حيث نحن. لكنى فى اليوم التالى صحوت فلم أجده إلى. 

بدأ توزيع الخبز عند الظهر تقريبا. فسادت المركب حالة من الهرج والمرج اعتدى فيها رجال الريس عباس على بعض الركاب ومنعوا عنهم الطعام.  أكلت رغيفى على الفور. كان جافا كالحجر، لكنى لم أكن قد ذقت الطعام طوال الـ ٤٨ ساعة الأخيرة. ولم أتحصل على كوز الماء الخاص بى إلا بعد ذلك بساعتين، ثم جلست مع بعض المصريين نتبادل الحديث. كان اثنان منهم من شبرا وخمسة آخرين من المحافظات. قالوا لى أنهم لا يعرفون بقية المصريين الموجودين على المركب، وأنهم سمعوا أن أحدهم من الجيزة مثلى. كانت أشعة الشمس حارقة، ولم يكن هناك من وسيلة للاحتماء من لهيبها. خلع كل منهم قميصه ووضعه فوق رأسه، مفضلين أن يعرضوا أجسامهم العارية للفحة الشمس عن أن تصاب رؤوسهم بضربة شمس. خلعت سترتى ووضعتها فوق رأسى مثلهم وظننت أن وجود القميص على جسمه سيحميه من لسعة الشمس. لكنى بعد الغروب وأنا أتأخر للنوم خلعت قميصى فوجدت جلدى قد احترق فلم أتمكن من النوم على ظهرى. 

لم أكن قد رأيت فادى طوال اليوم، لكن بينما كان النعاس يداعبنى، وحركة المركب فوق الأمواج تهدهدنى، أقبل على يقول أنه جاء يبيت إلى جوارى كما فى الليلة السابقة. وظل يفعل  نفس الشيء فى الليالى التالية، فلم أكن أره إلا فى الليل حين تغرب الشمس ويظهر القمر فى السماء. كان يقول لى أن وجوده إلى جوارى يطمئنه، لكن الحقيقة أن وجوده إلى جوارى كان يطمئننى. فى إحدى الليلى وكانت الرحلة قد قاربت على الإنتهاء انتظرت فادى كالعادة لكنه لم يأتِ. قلقت ولم أستطع النوم. قبل منتصف الليل بقليل ظهر أمامى فجأة. كان مبتسما. قلت له: "أين كنت؟" لم يرد. قال فقط: "هذا لك". كان بيده كيس بلاستيك شفاف وضعه بين يدى قلت: "ما هو؟" قال: "احفظه فى جيبك". بدا لى فى ضوء القمر ما بداخله. قلت: "هذه أوراقك يا فادى. يجب أن تظل معك". قال: "أنا وأنت واحد". أخرجت الأوراق من الكيس أتفحصها. "إنها شهادة ميلادك وبطاقة هويتك السورية و..."  قاطعنى: "هويتى السورية عربية مثل هويتك". قلت: "نعم كلنا أخوة، لكنك قد تحتاج لابراز هذه الأوراق فى أى لحظة". قلت وأنا أنظر إلى شهادة الميلاد: "لقد ولدت فى نفس يوم ميلادى". ابتسم ثم قال: "أريدك أن تبقيها معك". أدركت أنه يريدنى أن أحفظها له خلال الرحلة. طويت الأوراق وأعدتها إلى الكيس ثم قمت بوضعه أمام فادى فى الجيب الداخلى لسترتى. أدار ظهره ومضى. خفت ضوء القمر فاختفى. فى تلك الليلة لم يبت معى. 

فى مساء اليوم التالى انتظرت أن يجيء فادى، لكنه لم يفعل. فى الصباح بدأت أبحث عنه بين زملائه السوريين فلم أجده. سألت عنه فلم يبد عليهم أنهم يعرفونه. قالوا لى أنه لا يوجد على المركب إلا ثلاثة سوريين فقط. تبين لى أنهم من أسرة واحدة من حلب. أكدوا لى أنه لا يوجد سوريين على المركب غيرهم. سألونى: "لماذا تريده؟". أردت أن أوضح لهم أن أوراقه معى، لكنى قلت طالما إنه استأمنني عليها دون غيرى، فلأحتفظ بها معى حتى أسلمها له فى يده، فلابد سألقاه على هذا المركب الذى نقبع فيه جميعا كالسجناء الذين لا مهرب لهم.

 مضت الأيام طويلة لا نرى فيها أثناء ساعات النهار الحارقة إلا أمواج البحر المتلاطمة التى كانت تحيط بالمركب من كل جانب، ولا نسمع فيها خلال برد الليل القارص إلا زمهرير الرياح العاصفة التى كانت تقذف بالمركب يميناً ويسارا كما يلهو الأطفال بالكرة.  

لم أكن قد نمت ساعة أو أكثر قليلا حين شعرت أن أحدا يسكب الماء على وجهى. قمت من نومى وسط الليل مفزوعا فإذا بنا فى قلب عاصفة هوجاء ارتفعت فيها الأمواج عالية تغمرنا داخل المركب ونحن نيام. عمت الجميع حالة من الفزع وأصيب شاب من طنطا بهياج عصبى. لم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة من عمره. ظل يصرخ وأراد أن يلقى بنفسه من فوق المركب، لكن شقيقه الأكبر أطبق عليه بذراعيه وسحبه إلى الداخل المركب. استمرت العاصفة ما يزيد على الساعة، وما أن هدأت حتى صدرت إلينا الأوامر بأن ننزح الماء الذى تجمع فى قاع المركب. قام رجال الريس عباس بتسليمنا الدلاء وبعض الأوان وظلوا يباشرون سير العمل طوال ساعة أخرى إلى أن أكملنا المهمة.  

حاولت فى الفترة القليلة الباقية من الليل أن أحصل على قدر من الراحة دون جدوى. فى الساعات الأولى من الصباح كدت أغفو حين أيقظنى اثنان من الأخوة المصريين يسألوننى إن كان معى مخفض للحرارة حيث أن أحدهم واسمه الحسينى أصيب بحمى، وبعد عاصفة الأمس والبلل الذى أصابه فى مرقده، ارتفعت درجة حرارته بشكل كبير. قلت لهم أننى لا أحمل معى أية أدوية، وذهبت معهم إلى حيث كان يرقد الحسينى فوجدته يهذى من شدة الحمى. تعرفت عليه على الفور. كان شابا  مرحا، أذكر أن الشباب العرب تحلقوا حوله على الشاطئ وهو يلقى عليهم النكات المصرية وهم يضحكون.

وضعت يدى على جبين الحسينى فوجدته مشتعلا كالنار. اقترحت عليهم أن نذهب إلى قمرة قائد المركب عسانا نجد عنده ما نسعف بي زميلنا المريض. لكنى فوجئت بالريس عباس يثور وينهرهم أن أحضروا معهم مريضا على المركب، وقال أنه لابد مصاب بالحمى الصفراء التى لا شفاء منها، وأن عليهم أن يعلموا أن هذا المركب ليس بمستشفى ولا مستوصف.

ظل الحسينى يهذى ويتأوه طوال اليوم والليل من شدة الحمى، ونحن جلوس حوله نبلل قطعا من ملابسنا بماء البحر البارد ونتناوب وضعها على جبينه الساخن فتجف فى لحظات، وفى الساعات الأولى من اليوم التالى أسلم الحسينى الروح.

بمجرد أن ذاع الخبر فى المركب ظهر الريس عباس ومعه فتواته الذين هموا بلف الجثمان فى ملاءة بيضاء تمهيدا لإلقائه فى البحر. انفعل زملاء الحسينى وطلبوا الانتظار حتى تصل بنا المركب إلى الشاطئ فيتم دفن زميلهم دفنة كريمة. تضامن معهم راكب ليبى وآخر يمنى واثنان من السودانيين، قلت للريس عباس إن هذا هو اليوم الأخير فى البحر، وأننا فى اليوم التالى نكون قد وصلنا للشاطئ. لكنه صاح فينا جميعا قائلا إننا لن ندير أمور المركب على هوانا، وأننا جهلاء لا نعرف ما يجب عمله فى هذه الحالات، وكادت تنشب بيننا وبين فتوات الريس عباس معركة جديدة لو وقعت لكانت وخيمة العواقب، لكن أحد العراقيين تدخل مهدئا، وقال لنا إنه عمل من قبل على سفينة تجارية تركية، وأن إلقاء الجثمان فى البحر هو الدفنة الكريمة لمن يتوفاهم الله فى عرض البحر، وأكد أنه من الخطأ ترك الجثمان على المركب، خاصة أنه كان مريضا. 

أمنا العراقى فصلينا على الحسينى صلاة الجنازة، قبل أن نودعه إلى مثواه الأخير. لم يكن هناك أسماكا مفترسة هذه المرة، ولم تكن هناك معركة دامية. انزلق الجثمان فى كفنه الأبيض إلى قاع البحر فى جلال وسط حزن مبين خيم على المركب ومن فيها. وذرف الأخوة العرب الذين طربوا لنكاته الدمع فى صمت.

بعد أن انفض الجمع وجدت نفسى وجها لوجه مع العراقى الذى بدا لى أكبر سنا من بقية الشباب. كان اسمه منذر وكان يبدو ذو خبرة. تحدثنا فى أمور البحر التى كانت جديدة تماماً على، ثم رويت له قصة فادى وسألته إن كان قد قابله فنفى. قلت له أننى لا أعرف كيف أرد له أوراقه. استمع  إلى دون مقاطعة ثم قال: "إذا كان على المركب بالفعل فهو لن ينزل إلى الشاطئ دون أن يسترد أوراقه. الإنسان فى مثل هذه الرحلة لا وجود له بدون أوراق. الأوراق هى التى تثبت إن كان مهاجرا يبحث عن عمل، أو مجرما هاربا من العدالة، وعلى ضوئها يحصل على إقامة أو يساق إلى السجن". قلت: "لكن ها نحن فى اليوم الأخير من الرحلة وهو لم يأتِ بعد ليستردها". صمت منذر قليلا ثم قال وهو ينظر إلى البحر: "الرحلات البحرية تشهد الكثير من الغرائب". قلت: "ماذا تقصد؟" قال: "ما أدراك أن فادى كان على المركب أصلا؟" قلت:"إن أوراقه معى. أتريد أن تراها؟". قال: "هذا لا يعنى أنه كان على المركب". سكت قليلا وهو يتابع حيرتى، ثم قال: "..وربما يكون قد جاء فقط ليعطيك الأوراق". قلت: "وما لى أنا بأوراقه؟" ظل ينظر للبحر ولم يرد.  

..................................................

كان شاطئ جزيرة لمبدوزا الواقعة فى أقصى الجنوب الإيطالي مليء بالصخور والحجارة. ألقت بنا المركب فى الماء دون أن تقترب من الشاطئ، وكأنها تتقيء وجبة فاسدة كانت تمغص بأحشائها. وكما سبحنا منذ ثمانية أيام من الشاطئ إلى القارب الذى نقلنا للمركب، كان علينا اليوم أن نسبح من المركب إلى الشاطئ، لكن بدون قارب. قطعنا المسافة ما بين المركب والشاطئ فيما بين نصف الساعة أو ثلاثة أرباعها قبل أن تطأ أقدامنا تلك الصخور الطاردة للغرباء. وما أن تجمعنا على الشاطئ حتى نسينا جميعا عذاب الرحلة وأهوالها وأخذنا نحتضن بَعضُنَا البعض مهنئين بسلامة الوصول. لكن خلال دقائق معدودة كانت قوات خفر السواحل الإيطالية قد أحاطت بنا من كل جانب وكأنها كانت تعرف مسبقا موعد وصولنا. ١٤٢ شابا عربيا من مختلف الأقطار تم اقتيادهم إلى مركز تجمع المهاجرين المقام بالجزيرة. مكثنا به عدة ساعات فى حالة من الاحباط الذى نزل علينا جميعا كشبكة الصيد المنيعة. لم يعد هناك مصرى ولا سورى. لم يعد هناك صومالي ولا سودانى. لم يعد هناك ليبى ولا عراقى. كنا جميعا فى محنة واحدة كالمجرمين الخطرين نواجه معا خطر السجن أو شبح الترحيل. 

ياللكارثة! بدأ الجميع يندبون المصير الذى ينتظرهم، وصرخ أحد المصريين فى انفعال وأخذ يضرب بيديه على الحائط أن أخرجونا من هنا. لسنا مجرمين ولا قتلى! وقال آخر: "أكان كل هذا العذاب والاستدانة من أجل العودة من حيث جئنا؟"، بينما انهار أحد السودانيين وأخذ يولول ويلطم وجهه. 

فجأة دخل علينا رجل بدين قصير البنية يرتدى قبعة ومعه مترجم ينقل إلينا بلغة عربية ذات لكنة مغاربية ما يقوله الرجل من خلال ميكروفون يدوى حمله معه. عند دخولهما ساد السكون وأخذ الجميع ينصتون لما يقال. أوضح الرجل أن على كل شاب أن يخرج أوراقه حتى يتم حصر رعايا كل بلد على حدة. ثم قال: "إن كُنتُم تفكرون فى طلب اللجوء فسياسة الحكومة الإيطالية تقضى بعدم منح حق اللجوء إلا لرعايا الدول التى بها حروب وقلاقل وللمطاردين فى بلادهم". وذكر الرجل أسماء هذه الدول، ولم تكن من بينها مصر. ثم قال: "أما الباقين فسيتم بحث حالاتهم، كل على حدة. المطلوبون للعدالة سيتم التعامل معهم وفق مقتضيات الأمن الدولية، وغير المطلوبين سيتم ترحيلهم على الفور إلى بلادهم".

أخذنا نمر أمام الرجل الواحد تلو الآخر ليفحص أوراق كل منا، بينما أخذ المترجم الذى كان معه يدون بياناتنا فى كشوف كانت معه، ومن ورائه قوات الأمن تضع الأصفاد فى يد البعض وتنقلهم إلى سيارات البوليس، وتنقل من تنطبق عليهم شروط طلب اللجوء إلى سيارات أخرى، وتبقى فى المكان الغالبية الباقية التى سيتم ترحيلها بعد إخطار سفاراتها.

تلاحقت ضربات قلبى وغامت عينى، وحين جاء على الدور لتقديم أوراقى. أحسست كأنى مصاب بشلل كامل ولا أقوى على الحراك. فجأة  ظهر فادى أمامى فمد يدى الى الجيب الداخلى لسترتى.

أخذ الرجل منى بطاقة الهوية وأخذ ينظر إلى وجهى وإلى الصورة الملصقة عليها والتى كانت مياه البحر ونحن نسبح إلى الشاطئ قد محت معالمها، ثم قال للمترجم: "سورى". فدون المترجم ذلك فى كشوفه. ثم نظر الرجل إلى وقال: "هل تطلب اللجوء؟" قال فادى بصوتى: "نعم"." >

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق