سامي هو بائع الحبوب في دكان علي مقربة من بيتنا، لم أكن فيما قبل أعرف شيئا عنه غير أنه سامي الذي ترسلني أمي إليه دائما بعد أن تضع في كفي قرشا أو قرشين علي حسب نوعية أو كمية ما تريد من طلبات: هات من سامي نص كيلو عدس......
هات من سامي كيلو أرز........
هات من سامي ربع كيلو حلبه....
وهكذا. أنا الصغير كنت أعامله بالطريقة ذاتها : خد يا سامي. كنت أناوله القرش أو القرشين وأنا أقول له : هات يا سامي كذا . كان سامي يعاملني بالاحترام ذاته : خد يا محمد.....هات يا محمد، وكنت أذهب إليه من ثلاث إلي أربع مرات يوميا إذ كان أبي يرسلني إليه يوميا لأجلب له صحيفة الأهرام وأعيدها إليه ، حيث كان سامي هو الوحيد في الحي الذي يشتري الجريدة من السنوسي بائع الجرائد كل صباح، وكانت تلك الصحيفة تلف الحي كله بيتا بيتا علي سبيل الشحاته من سامي ، ولم يكن سامي يتذمر، ولم يمتنع يوما عن إعطائي الجريدة بكل نفس راضية. في يوم الصفعة المشئوم كان أبي قد أرسلني إليه من أجل الجريدة كالمعتاد، غير أنني عدت بدونها لأن دكان سامي كان مغلقا، ولما أبلغت أبي بذلك لاحت في وجهه علامات غريبة لم أفهمها في حينها، لكنني سمعته يتمتم قائلا: يا تري فيك إيه يا سامي، ثم امتلأ وجه أبي بالقلق والحزن حتى أنني توهمت أن أبي سيبكي حالا. وبينما الوضع كئيب هكذا ظهر سامي قادما من أول الشارع، فزعقت وأنا أشير ناحيته سامي أهو....سامي جه. فجأة نزلت كف أبي الغليظة علي وجهي كالصاعقة وكان ما كان من أمر انطفاء الدنيا وانسداد أذني واسوداد الكون ، لكنني عرفت للمرة الأولي حينئذ أن سامي هو عمي وأن تعاملي معه سوف يكون منذ هذه اللحظة السوداء مبنيا علي هذه الحقيقة التي كنت أجهلها. عمي سامي لم أكن أعرف أنه عمي ، ورغم عنف الصفعة إلا أنني كنت سعيدا باكتشافي حقيقة كونه عمي، وكان لابد أن يعلم كل أصحابي في الحي أن من يشتري الجريدة كل يوم هو عمي، وأن الرجل النظيف ذا البالطو الأنيق والساعة الجميلة والدكان الكبير هو عمي. وكأن عمي سامي هو الآخر قد اكتشف أنني ابن أخيه إذ بدأ يحتفظ لي ببعض الحلوى في جيب البالطو الجميل، ويربت علي ظهري ، وينصحني في كل مرة بألا أنزل من علي الرصيف مخافة أن تدهسني سيارة أو تصدمني دراجة. كان الجميع سعداء بتحولي في معاملة عمي سامي، أمي ، أبي ، جدي ، جدتي، حتى أن جدتي كانت بين الحين والحين تسألني وهي تحتضنني قائلة : سامي يقربلك إيه يا خويا ؟!!، وكنت ألمح فرحا هائلا في وجهها وأنا أقول لها عمي ، ثم أؤكد لها من جديد وأنا أستعيد ذكريات الصفعة : عمي ....عمي.
حين مات أبي كان عمي سامي يبكي بشدة ، ولم يتوقف عن النحيب إلا بعد أن نهره الأسطى الدسوقي حلاق الحي، وزعق فيه وهو يقول له : أنت كده ها تتسبب في دخوله النار. عمي سامي هو الذي تولي بعد موت أبي الدفاع عني ضد العيال من الحارات المجاورة ، وهو الذي شكوت أمي إليه كلما ضربتني أو رفضت إعطائي قرشا لأشتري الملبس من الحاج يماني بقال الحي. كان يجلب لي الملبس بنفسه، وهو الذي أبلغ جدتي بأنه سيخاصم من يضربني مرة أخري. بعد أبي بسنة واحدة مات عمي سامي. عمي سامي هو الآخر راح مثل أبي. كانت أمي تبكي ، وكانت جدتي تبكي ، وكان الكثيرون في الحي يبكون مثلما بكوا يوم مات أبي. الغريب أنني لاحظت أن جنازة عمي سامي لم تسلك الطريق ذاته الذي مشينا فيه لدفن أبي،
كان أبي محمولا في نعشه علي أكتاف رجال الحي بعكس عمي سامي الذي كان محمولا في عربة مزركشة يجرها حصانان. فجأة.....حين وصلنا إلي المقبرة رأيت الصليب....صلبانا كثيرة. لم تكن المقبرة هي المقبرة التي دفن أبي فيها ، وظننت أنهم يريدون دفن عمي سامي في مقابر المسيحيين، حينئذ انفجرت في بكاء مرير، لماذا لا يدفنون عمي سامي مع أبي في نفس المقبرة، وقبل أن أندفع نحو التابوت إذ بالاسطي الدسوقي الحلاق يطبطب علي ظهري ويقول لي : اهدأ يا حبيبي أبوك يا ابني مسلم لكن عمك مسيحي.