. وبعد أن يحصد نتاج تعبه فى حكم على الورق يجرى فرحاً حتى يتحقق حلمه بأنه سيحصل على حقه الذى أثبته له القانون وكلمة الحق والعدل، ولكنه يصدم فجأة بأن الأحكام التى بين يديه لا تنفذ، وأن كلمة القضاء التى تعتبر أعلى كلمة يمكن الانسان أن يتوكل عليها بعد الله عز وجل، لا تجد من يفعلها ويحولها من كلمة لفعل على أرض الواقع، كثيرون هم من يحصلون على أحكام ولا يمكنهم تنفيذها لأن الواقع المرير يحول دون ذلك، وهنا يأتى السؤال ما قيمة هذه الأحكام مادامت لا تنفذ؟ ولماذا يضيع الانسان سنوات عمره وأمواله وجهده طالما يصل لطريق مسدود فى النهاية؟ أليس هذا كفيلا بأن يدفع الناس للحصول على حقوقهم بأيديهم ليحكمهم قانون الغاب طالما أن القانون لا يأتى لهم بحقوقهم؟
هو ما يوضحه د.أنس جعفر أستاذ القانون الادارى ومحافظ بنى سويف سابقاً، قائلاً إذا لم تكن الدولة ضامنة لتنفيذ الأحكام فإن كل ما يقوم به القضاء لن يكون له أهمية، وبالتالى يؤدى إلى نوع من الانهيار داخل الدولة لأن للأحكام قدسيتها ولا يمكن للأفراد أن ينفذوها بمعرفتهم، ويجب التفرقة ما بين نوعين من الأحكام «الأول التى تقع بين الأفراد» بعضهم وبعض والثانى التى تكون الإدارة طرفا فيها (مثلا موظف الغيت ترقيته فيلجأ للقضاء ويكسب القضية)، ولا نجد مشاكل من الناحية النظرية فى تنفيذ الأحكام بالنسبة للنوع الثانى من القضايا لأن هناك نصا فى قانون العقوبات فى المادة رقم 132 حيث تنص على الحبس والعزل من الوظيفة لكل مسئول لا يقوم لتنفيذ حكم قضائى هذا بالطبع إذا كانت الادارة طرفاً فى النزاع، لهذا يجب توعية الأفراد فى المجتمع بهذا النص حتى يلجأوا إليه لتمتثل الادارة لتنفيذ الحكم القضائى الذى يعتبر عنواناً للحقيقة، أما المشكلة فى عدم تنفيذ الأحكام فنجدها فى القضايا التى بين الأفراد بعضهم وبعض، على الرغم من أن القانون يلزم الشرطة بمساعدة المواطنين فى تنفيذ الأحكام، فعلى سبيل المثال لو أن حكماً صدر بطرد مستأجر من الشقة ولم يقم بالتنفيذ بإرادته فيمكن إجباره عن طريق الشرطة بإخلاء الشقة محل النزاع، إلا أن ذلك لا يحدث فى كثير من الأحيان، وهنا تأتى المشكلة الحقيقية لأنه لا توجد شرطة متخصصة فى تنفيذ الأحكام، ولهذا يجب أن تكون هناك شرطة متخصصة فى تنفيذ الأحكام القضائية حتى يتمكن الأفراد من الحصول على حقوقهم التى أقرها لهم القضاء.
كل دول العالم المتقدم بالإجماع القضائى واجب النفاذ إن لم يكن بالتراضى فإنه بالقوة الجبرية، وإذا استخدمت القوة الجبرية لفترة ويعلم الأفراد أن الإدارة جادة فى تنفيذ الأحكام فسيمتثلون طواعية لتنفيذها بطبيعة الحال وكذلك استخدام القوة والمادة 132 عقوبات حتى يعلم الناس أن هناك نوعا من الجدية.
الحكم عنوان الحقيقة
وكما يقول أ.د.أحمد سعد أستاذ القانون المدنى جامعة القاهرة والمحامى بالنقض إنه لا قيمة لعبارة أن «الحكم عنوان الحقيقة» إلا إذا كان يقترن بإمكانية تنفيذه، فما قيمته حينئذ؟ .. وبالتالى الحديث عن تنفيذ الاحكام هو حديث عن قيمة السلطة القضائية والأحكام التى تصدر عنها هى عنوان لها ولقيمتها فى المجتمع، ومن هنا ضيق المشرع من محاولة تعطيل تنفيذ الأحكام فجعل الاستشكال فى التنفيذ قبل المنفذ ضده مرة واحدة هو الذى يوقف تنفيذ الحكم وذلك ينظره قاضى الأمور المستعجلة لتحديد إذا ما كانت أسباب هذا الاستشكال جدية أم مجرد مراوغة فى تعطيل تنفيذ الحكم ومن هنا جاءت الحكمة أن الاستشكال الثانى والثالث والرابع إلى ما لا نهاية لا يوقف تنفيذ الحكم وهنا قد وازن المشرع بين حق الذى صدر له حكم نهائى واجب النفاذ وبين المنفذ ضده بحيث يقبل وقت التنفيذ عنه الاستشكال الأول حتى يتيقن قاضى الأمور المستعجلة من أن هذا الاستشكال هو مراوغة لا أكثر ولا أقل فى تنفيذ الحكم، ومن هنا جاءت حكمة أن الاستشكال من غير طرفى الخصومة لا يوقف تنفيذ الحكم إلا إذا كان فى أول استشكال..هذا عن كيفية رؤية ونظرة المشرع لخطوات التنفيذ مقترنة بكلمته والاستعانة بالسلطة العامة إذا اقتضى الأمر ذلك.
ولكن هناك وجها آخر سلبى لكيفية تنفيذ الحكم ويكمن فى المواطن نفسه الذى صدر ضده الحكم والدولة أيضاً ممثلة فى أجهزتها الرسمية ومؤسساتها ووزاراتها حيث يجب أن يصدر تشريع يقرر الآتي: يحظر على الدولة ومؤسساتها ووزاراتها أن تستشكل فى أى حكم نهائى صادر ضدها لأنها هى التى يجب أن تؤكد أن الحكم عنوان الحقيقة، ولن يتأتى ذلك إلا باحترامها هى نفسها للأحكام التى تصدر ضدها فإذا كانت تحترم وتسارع بتنفيذ الأحكام التى صدرت فى صالحها ـ وهذا هو الوجه الآخر ـ فعليها أن تسارع أيضاً فى تنفيذ الحكم القضائى الصادر ضدها لأنها بذلك تعلى كلمة الحق والقانون،و إعلاء شأن السلطة القضائية فى مصر.. وبذلك أيضاً تغلق الباب على تحايل ومماطلة المواطن فى أن يتلاعب بتنفيذ الحكم الصادر ضده.
كما يجب أن يقترن التشريع بنص آخر بعقوبة صارمة للمواطن الذى صدر حكم ضده ويتقاعس أو يماطل فى تنفيذه ويجب أيضاً أن يطبق هذا النص، بالاضافة إلى دور مهم جداً للاعلام بكافة صوره إلى توصيل رسالة للمواطن أن الحكم القضائى هو عنوان الحقيقة وأن تنفيذه يجب أن يكون تتويجاً لهذه العبارة.. ويجب أن تقترن العقوبة بأخرى جنائية ومالية، أى تكون عقوبة مقيدة للحرية وغرامة مالية لأن القضية ليست عدم تنفيذ حكم ولكن قضية استمرار الظلم لصاحب الحق وإهدار المال العام.
فالسلطة القضائية ميزانيتها من ميزانية الدولة وأن القاضى أو المحقق يتقاضى راتبه من هذا المال والتقاعس عن تنفيذ الحكم هو اهدار لهذا المال، وهنا يجب أن يكون هناك جهاز خاص مستقل لضمان جدية تنفيذ الأحكام من خلال اشراف قضائى على السلطة التنفيذية.
ولعلى على ثقة ـ كما يقول د.أحمد سعد ـ اذا زرعنا هذا المعنى فى وجدان كل مواطن فسنجد احصائية القضايا والمنازعات تقل لأكثر من النصف عنها الآن، بالإضافة إلى أن كل مواطن سيعيد حساباته فى علاقاته بالمواطن الآخر لأنه يدرك جيداً أنه صاحب حق أم لا، وإذا كان غير صاحب حق ستتولى الدولة ممثلة فى جهازها التنفيذى تنفيذ الحكم رغماً عن ارادته وقد يكون ذلك طريقا لحل المنازعات ودياً وهذا مكسب آخر، بالإضافة لمكسب الدولة فى المعنى العميق لدولة القانون والحق.
حبر على ورق
المستشار رفعت السيد رئيس محكمة الجنايات السابق يرى أن الأحكام التى تصدر من المحاكم إذا لم يتم تنفيذها والالتزام به فإنها تضحى مجرد حبر على ورق، ولا قيمة لها، وبالتالى فقد يستمر النزاع على الحق المدنى سنين عديدة وعند صيرورة الحكم باتا لا يتمكن صاحب الحق من الحصول على حقه إما لعدم وجود ملاءة لدى المجنى عليهم وورثتهم من بعدهم أو حتى لزوال الحق المتنازع عليه ومن ثم فان سرعة تنفيذ الأحكام القضائية لابد أن تتمازج معها سرعة الفصل فى الدعاوى تحقيقا للعدالة الناجزة التى يرنو اليها كل من ولج ساحات القضاء وليس الأمر مقصورا على عدم تنفيذ الأحكام المدنية وإنما امتد الأمر أيضا إلى الأحكام الجنائية التى تصدر فى غيبة المتهمين بالرغم من وجود إدارة عامة لتنفيذ الأحكام الجنائية يشرف عليها مساعد زير الداخلية وإدارات بكل مديرية تحت إشراف مدير الأمن ومع ذلك فان هناك الآلاف من المحكوم عليهم بعقوبات جنائية تصل إلى الإعدام لا تجد من ينفذها، ويعيث هؤلاء المحكوم عليهم فى الأرض فسادا وإفساداً، مما يستتبع ضرورة تعزيز هذه الإدارة برجال أكفاء وإمكانات تسمح لهم بتحقيق الهدف المنشود منها كما يتعين بالنسبة للأحكام المدنية إعادة هيكلة التنفيذ وقصر الإجراءات وإعدادها لتحقيق الهدف منها.
معوقات التنفيذ
يشير أحمد قنديل حجاج المحامى بالنقض والإدارية العليا إلى بعض الأحكام التى يصعب تنفيذ الأحكام فيها مثل: أحكام طرد لإخلاء وحدة سكنية أو مقر تجارى لعدم سداد الأجرة أو لفسخ العقد وعندما يحصل المالك على الحكم ويأتى وقت تنفيذه لا يستطيع اخراج المستأجر ويصبح الحكم معلقا. أحكام حبس فى مخالفات البناء والمرور والغرامات التى لا يتم سدادها، والحبس الشرعى على الأب الممتنع عن سداد دين النفقة يحكم عليه بالحبس لإجبار الأب على السداد. أكثر الناس لا ينفذ بحقهم الأحكام الصادرة ضدهم لأن ضابط المباحث وجهات التنفيذ والمحضرون لا يجدونه لأنه غير مقيم فى العنوان المعلن عليه أو لأنه خارج البلاد ويستلزم الأمر فى هذ الحالة ترقب الوصول ليتم القبض عليه فى المطار حتى يسدد الدين وإذا قام بسداد جزء منه يسقط الحكم ثم يسدد باقى المبلغ.
هناك على سبيل المثال حكم ضد الحكومة لتسليم أراض أقيمت عليها مدرسة لمدة 16عاما ولم يتم سداد الايجار كما أن المبنى آيل للسقوط وجاء الحكم بنزع الملكية واستلام الأرض ولكن لم يتم التمكن من تنفيذ الحكم، وجاء قرار من مجلس الوزراء بنزع الأرض للملكية العامة بعد 8سنوات فى المحاكم.
وهناك حكم أخر من القضاء الادارى لتسليم أرض عليها ناد للشباب على حوالى خمسة فدادين ولم يتم تنفيذ الحكم لأكثر من 4سنوات حيث إن الجهة تتقاعس لعدم وجود قوة لتنفيذ الحكم لدواع أمنية.
وقد تقام دعوى لعودة موظف للعمل ولم تتم عودته بعد اللجوء للقضاء ويضطر لرفع دعوى تعويض وبعد حصوله على حكم لا يمكنه تنفيذه لأنه لا يستطيع تعليته للمسئول الأكبر فى جهة عمله كأحد الوزراء مثلاً، لأن المحضرين يخشون التوجه لمنزل المسئول الكبير لأن الإعلان يكون فى منزله أو مقر اقامته، وهذه عقبة تتسبب فى عدم تنفيذ الحكم، (وهو الأمر الذى يحتاج تعديلا تشريعيا لرفع الحرج عن المحضرين كأن يتم الاعلان فى مقر عمله مثلاً) ويستمر هذا الوضع سنوات عديدة لا يرجع الموظف لعمله ويفوته عديد من الترقيات والدرجات المهنية التى لا يحصل عليها كما يخصم كل هذا من المعاش، وبعد كل هذا قد يعطيه القضاء تعويضاً لا يتناسب مع كم الخسائر التى تعرض لها. وهو ما لا يحدث فى أى دولة من الدول المتقدمة فنجد مثلاً فى الامارات قاضيا بدرجة مستشار مهمته تنفيذ الأحكام يعاونه فيها جهاز محضرين ليصبح كل حكم واجب النفاذ، ولدينا فى التشريع الجديد فى المحاكم الكلية أن كل محكمة يتبعها عدة مراكز مما يجعل عدد القضايا كبيرا جدا بالنسبة للقاضى الواحد، اليتنا نفعل، لدينا قاضى التنفيذ فى مصر ليس فى المحاكم الكلية فقط بل أيضاً فى المحاكم الجزئية ليعطى هذا القاضى حق التنفيذ، فما يحدث الآن أن القاضى يقوم بدوره كقاضى جلسة، وقاضى الأمور الوقتية وتنفيذ فى نقس الوقت وهذا يمثل عبئاً كبيرا على كاهله ويبقى التنفيذ آخر شيء، لأن القاضى يهتم بسرعة الفصل فى القضايا لذا يجب أن يكون هناك قاض آخر يختص بالتنفيذ على أن يكون تابعا لوزارة العدل مباشرة وليس للقاضى الكلي، كما يجب أن يكون على درجة مستشار ليتمتع بخبرة أكبر من القاضى الجزئى أو العادي... ومن سلطات قاضى التنفيذ الاعلان بالقوة الجبرية فله سلطة فعلية على الأشخاص المطالبين بتنفيذ الأحكام، يجب أن يكون للشرطة. القضائية المختصة بتنفيذ الأحكام قوة التنفيذ أكبر من قاضى التنفيذ لأنه يعتبر سلطة أقوى من رئيس السلطة التنفيذية فى الدولة، كما يجب زيادة عدد المحضرين.
لقد آن الآوان لرفع كلمة الحق والعدل للتنفيذ حتى يرد الظلم عن المظلوم الذى يظل شاعرا بالغبن والقهر رغم امتلاكه أحكاما ومستندات تثبت حقه لكنها مجرد أحكام على ورق !!.