أول ما استوقفني في مجموعة زلوزةس القصصية للكاتب عبد الستار حتيتة( التي صدرت عن سلسلة احروف, الهيئة العامة لقصور الثقافة) تواريخ كتابة القصص والأماكن التي كتبت فيها.
فقصص المجموعة الأربع عشرة مكتوبة ما بين عامي1984 و2010, أي في ستة وعشرين عاما, وهو ما يدل علي كاتب متمهل ومتقشف في عملية النشر, يحرص علي ألا تخرج قصة من يده إلا وقد رضي عنها تماما وهو ما جعل قصصه ناضجة علي نار هادئة, ترضي قارئها وإن تفاوتت درجة ذلك الرضا.
كما أن تلك الفسحة من الزمن جعلت من الطبيعي أن تشاهد قدرات الكاتب وأسلوبه يتطور أمامك بين دفتي الكتاب الصغير, خاصة إذا أضفت لبعد الزمان بعد المكان.
فقصص الثمانينيات والتسعينيات كتب معظمها في مرسي مطروح والسلوم, بينما قصص الألفية الثالثة في القاهرة. في الطائفة الأولي يتحدث حتيتة عن أهله, وعن نفسه كواحد من أهالي محافظة مطروح الحدودية, بكل ما يحمله ذلك المسمي من مشاكل وتناقضات وغربة. وتعد قصة زلوزةس(1993) تجسيدا شاعريا لتلك الغربة. ومعظم قصص تلك الطائفة تغلب عليه الواقعية.
أما القصص المكتوبة في القاهرة(2000-2010) فهي زمنا تصاعد في المستوي إلي القمة, وهي موضوعا منفصلة عن الجذور البيئية التي لعبت دور البطولة في القصص الأولي, وهي أسلوبا جنوح متنام إلي السيريالية, التي تبلغ ذروتها في القصتين الأخيرتين اطحالبب وارغاوي حمراءب(2009 و2010) اللتين هما ليستا فقط أكثر قصص المجموعة ابتعادا عن الواقعية واقترابا من زمننا, بل هما في رأيي أفضل قصص المجموعة علي الإطلاق. وأعدهما درتين أحضك يا عزيزي علي اقتنائهما هما وباقي قصص المجموعة, التي أتحفتنا بها هيئة قصور الثقافة ولها كل الشكر.
فإذا أجرينا مقارنة بين القصة الأخيرة زرغاوي حمراءس( القاهرة ذ2009) وبين إحدي القصص المبكرة نسبيا وهي القصة التي أعارت المجموعة اسمها: زلوزةس( السلوم-1993), لكانت تلك المقارنة دالة علي ما يتجاوز القصتين الفرديتين إلي الطائفتين السابقتي الذكر: قصص الحدود بما فيها من مهمشين, وقصص القاهرة حيث تلتقي آلام الشعب كله وتتضخم, كقلب رجل الرغاوي الحمراء, وهو رجل لا اسم له في القصة, رغم أنه بطلها, تورم قلبه حين أجبروه علي البكاء الأخرس كي لا يزعج الناس الذين لهم أسماء, سكان حي القصور القريب من مساكن الإيواء التي يسكنها.
ولكن لماذا يبكي؟ إنه في الأصل صعيدي فاره كان يتسلق السقالات كحصان تضرب بقوته الأمثال, ولكنه بعد أن تجاوز الخامسة والخمسين سقط أكثر من مرة بحمولته من الطوب والرمل من أعلي السقالات. وكان قد وفر قدرا من النقود عند شقيقيه في المنيا, لكن ذلك المال احترق مع شقيقه القادم لزيارته في العيد في قطار الصعيد. وكان قد أضمر أن يفتح بهذا المال كشكا, والآن صار مفلسا بلا حول, بعد أن أقعده السن عن عمله الشاق, مما اضطر زوجته إلي أن تخرج للعمل من الصباح للمساء كي تنفق عليهما. فكان يبكي اشتياقا لها, وحزنا علي رجولته الضائعة وعارا لأنه رجل صعيدي تعمل زوجته ليأكل. وحين أجبرته السلطات الأمنية علي أن يخرس, واصل البكاء ولكن دون صوت, فانتفخ قلبه وتورم حتي برز من بين ضلوعه. وأحضر له جيرانه الطيبون طبيبا خريج دبلوم صنايع يقدر علي ثمنه أمثالهم, فحبس نفسه معه ثلاثة أيام وفي النهاية خرج منتصرا يمسح يديه في فوطة صفراء وقد حوله إلي غسالة بدائية ذات مروحة علي شكل برميل تمشي علي أربع عجلات, وتخرج حين تدور ذكغيرها من الغسالات- رغاوي بيضاء, لكن اللون يتغير شيئا فشيئا فتصبح حمراء, ذلك أن القلب بجوار المروحة الدوارة, القلب المتورم ما زال يبكي وينبض ويناجي زوجته في صمت.
بينما زلوزةس طفلة من خيام البدو في السلوم تعاني إهمال واضطهاد الجميع, الأهل في الخيمة الذين لا يهتمون بعلاجها من الصديد النازل في إصرار من أذنيها, وزملائها ومدرسيها في المدرسة الابتدائية, التي تمشي لها طريقا طويلا علي الأقدام, لتجدهم يتأففون من منظرها ورائحتها. وحتي حين يحاول أحد المدرسين أن يكون حنونا يقف جدار بينهما, لهجته الحضرية التي لا تفهمها, وهي إشارة رمزية لا تخفي علي عدم وجود جهود واضحة للتواصل مع المهمشين. إذا تأملنا القصتين, وبعد مرورنا علي الاختلاف الأسلوبي بين الواقعية والسيريالية, نجد فارقا يخص الكاتب: إنه في زرغاوي حمراءس لم يعد مهمشا يكتب عن مهمشين, لم يعد حدوديا يكتب عن حدوديين, لقد التأم. لأنه في القاهرة اكتشف أن الشعب المصري كله مهمش, إنه شعب من المهمشين, ما عدا مجموعة من السعداء والمصطفين, فصار عبد الستار حتيتة في القصة الأخيرة مصريا فقط.
زلوزةس مجموعة متنوعة الأطايب, يهتم صاحبها بالتكثيف حتي أنه قطر عمره كله في أربع عشرة قصة.
رابط دائم: