ولكن تشير الوقائع إلى أن الأطماع فى مضيق باب المندب تحديدا والتخطيط لإستغلاله من جانب قوى خارجية لم يكن بالأمر المفاجئ الجديد بل كان معروفا ومعلنا وواضحا منذ سنوات سبقت الربيع العربى وحالة عدم الإستقرار التى عصفت باليمن خلال السنوات الأخيرة.
فجأة وفى صيف عام 2008 تجمعت مجموعة متباينة من مسئولين حكوميين فى جيبوتى ومقاولين عسكريين أمريكيين وصحفيين فى فندق "كيمبينسكى بالاس" فى جيبوتى، للإطلاع على أكثر المشروعات الطموحة فى تاريخ المنطقة بل وربما فى العالم.
وكان المشروع هو إقامة جسر عملاق بطول 29 كيلومترا فوق مضيق باب المندب ليصل بين جيبوتى واليمن.
وحتى يكون الأمر أكثر وضوحا، فإن المواصفات التى أذيعت عن المشروع الطموح أشارت إلى انه مشروع مدينتى النور بجيبوتى واليمن على طرفى مضيق باب المندب بالإضافة للكوبرى العملاق الذى يربط بينهما والذى يعنى ايجاد أول رابطة برية بين القرن الافريقى وجنوب شبه الجزيرة العربية فى القارة الآسيوية. وتم تقدير تكلفة الكوبرى وحده بـ20 مليار دولار اما تكلفة المشروع باكمله متضمنا المدينتين فقدرت بـ200 مليار دولار.
وقيل وقتها إن جيبوتى ستبرز كمركز للنقل البحرى بفضل الاستثمارات الكبيرة التى ستنهال عليها فى الوقت الذى ستنقل فيه أنابيب مياه النيل من أحد المنابع فى مرتفعات إثيوبيا إلى الجانب الآسيوى!
وقد أذهلت التفاصيل الفنية المتابعين إلا أن طبيعة الحضور والمشاركين فى المشروع كانت أكثر جذبا للإنتباه فقد لوحظ بروز دور رجل الاعمال طارق بن لادن، الأخ غير الشقيق لاسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة. فقد تبنى رجل الاعمال امر تنفيذ المشروع من خلال موقعه كرئيس لمجلس إدارة مجموعة الشرق الأوسط للتنمية قبل ان يتخذ قرارا بإسناد تخطيط وتنفيذ المشروع وإدارة الكوبرى الذى سيربط بين طرفى باب المندب الى شركة مدينة نور للتنمية التى تتخذ من ولاية كاليفورنيا الامريكية مقرا لها.
ولاحظ المشاركون وفى مقدمتهم مراسل مجلة "الإيكونوميست" البريطانية عدم وجود اى مسئول افريقى بخلاف المسئولين فى جيبوتى! كما لم يلحظ اى مشاركة يمنية بالحدث! ولكن لوحظ ان جانبا كبيرا من الحضور لهم صلة بالخدمة فى القوات المسلحة الأمريكية أو بالخدمة فى شركات متعاقدة مع الجيش الامريكى تحديدا. وكان من اللافت للإنتباه ان عددا من مسئولى الشركة المسئولة عن المشروع كانوا يعملون فى شركات ذات علاقة بالجيش الامريكى، مثل شركة دين كوربوال 3 كوميونيكشن, أو خدموا فى إدارة الرئيس الأمريكى السابق «بوش». كما وجدت شركات ذات طابع تسليحى مثل «لوكهيد مارتن وآلايد ديفينس سيستمز»، ومن خلال الموقع الإلكترونى ومطبوعات شركة مدينة نور للتنمية التى قيل أنها ستتولى المشروع تمت الإشارة الى ان الشركة قد دعت العديد من الشركات العالمية لأن تكون جزءا من فريق العمل بالمشروع. وعلى الرغم من ان القائمة المعلنة لهؤلاء المشاركين لم تضم أسماء شركات لوكهيد مارتن أو دين كورب فإنها ضمت أسماء شركات مثل إيادس وإيرباص وبوينجو جى بى مورجان ساشس وسبيس تون وسونى بالاضافة الى مؤسسة روزفلت وهى مركز دراسات للشئون السياسية الاستراتيجية الإنسانية. وتم اسناد دراسات الجدوى الأولية للمشروع الى شركة دانماركية فى حين تتولى المجموعة الاستشارية الاقتصادية (سى أو دبليو آى) بدبى وضع التصاميم الإجمالية للقاعدة الخاصة بالكوبرى العملاق.
ولم يمر وقت طويل على انعقاد المؤتمر حتى نشط تنظيم "القاعدة" بقوة فى اليمن خاصة أن بعض قياداته كانت تحمل جوازات سفر أمريكية، لتبدأ القوات الأمريكية فى التحرك نحو اليمن انطلاقا من جيبوتى مستخدمة مجاله الجوى لأغراض عسكرية حتى اليوم!! وظلت القوات الأمريكية تعمل فوق أرض اليمن تحت مظلة مكافحة الإرهاب حتى قبل بداية "عاصفة الحزم" بأقل من اسبوع واحد فقط، عندما سحبت قواتها المتمركزة فى قاعدة "العند" الجوية فى جنوب اليمن بسبب مخاوف أمنية!
نجاد فى قلعة "يسوع"!
وبعد مرور أقل من عام واحد على مؤتمر "كوبرى باب المندب" كان جوا ربيعيا دافئا يسود مدينة وميناء مومباسا بكينيا فى شهر فبراير2009 عندما إنساب بهدوء وسرعة كبيرة موكب مهيب جنبات المدينة قبل ان يتوقف امام مبنى متحف "قلعة يسوع" وعندها تقدم موظف الاستقبال ليفتح باب سيارة الزائر المهم ليظهر وجه الرئيس الإيرانى السابق محمود احمدى نجاد بابتسامته الغامضة المعهودة رافعا يده بالتحية.
وهنا طرق سؤال مهم فى اذهان الحضور: ما الذى يفعله رئيس الجمهورية الايرانية "الإسلامية" المتشددة ـ حتى مع دول الجوار المسلمة ـ فى"قلعة يسوع" بمومباسا فى كينيا؟. وهنا جاءت الإجابة مقتضبة وقصيرة. فهو يزور ابرز واكبر الموانئ القريبة من خليج عدن حيث مدخل البحر الأحمر وجيبوتى واريتريا وباب المندب والقراصنة والحوثيين فى اليمن.
وبنظرة سريعة ذات طابع جيوبوليتيكى (الجغرافيا السياسية) يمكن التوصل الى إجابات اكثر دقة. فقد قام نجاد بجولة افريقية سريعة فى شرق افريقيا زار خلالها 3 دول افريقية هى: جيبوتى وكينيا وجزر القمر. وفى جيبوتى التقى رئيسها فى ذلك الوقت اسماعيل عمر جيله واتفق الطرفان على اهمية التعاون من اجل إفساد "خطط الأعداء" (دون تسميتهم) وتم التوقيع على 5 اتفاقيات للتعاون بين الدولتين.
واذا كانت زيارة نجاد للدول الثلاث المحيطة بالمدخل الجنوبى للبحر الأحمر قد طرحت "تساؤلات عابرة" فإن العلاقات الإيرانية الإريترية قد طرحت المزيد من الأسئلة وعلامات الاستفهام. فنتيجة للتقارب الإيرانى الاريترى والاهتمام الإيرانى بالوجود فى البحر الأحمر خاصة حول مداخله وعلى شواطئه دقت اجراس الإنذار داخل العديد من مراكز القيادة فى العالم بما فيها إسرائيل. وعلى مدار السنوات التالية توالت الوقائع وتسربت المعلومات التى أكدت التغلغل الإيرانى فى البحر الأحمر وفى اليمن عند باب المندب تحديدا.
وهكذا بدا من الواضح أن هناك العديد من المخططات الخارجية للهيمنة على مضيق باب المندب وأن هناك تشابه كبيرا بين مخططات الهمينة الخارجية المختلفة على باب المندب تحديدا والبحر الأحمر بوجه عام. وأن مخططات التسلل والإنقضاض على المنطقة بدأت قبل فترة سابقة على خطاب أوباما الشهير فى جامعة القاهرة فى صيف عام 2009. وانها قد إتخذت العديد من الأشكال التى تراوحت بين التلويح بالديمقراطية والرخاء الاقتصادى والمشروعات الاستثمارية الهائلة وصولا إلى إستخدام القوة العسكرية بشكل مستتر قبل التحول إلى العلانية مما استدعى ظهور القوة العربية المشتركة.