رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

سليمان الملك فى حديقته

السمّاح عبد الله

الناقد الذي يؤرخ للشعر السبعيني يمر في الضحى على مقهى زهرة البستان، فيرى السبعينيين جالسين في الظلال داخل المقهى أو بجوار الحوائط المرصوصة، فيسلط على وجوههم بطاريته، فتضيء وجوههم، ويمضي، فنراهم في المرايا بقسماتهم الجميلة وأسنانهم الضاحكة وشِعرهم التجريبي الجميل،وحده، محمد سليمان، لأنه ريفي قح، ولأنه طيب، يؤثر دائما الجلوس في وضح الشمس وفي ممرات المقهى الوضيئة، نقول له : يا سليمان، اجلس بجوار رصفائك داخل المقهى أو بجوار الحوائط المرصوصة، فانعكاس ضوء البطارية لا يتيح لوجهك أن يضحك كرفاقك فلا تبين ملامحك كلها في المرايا، يضحك ويقول : وما حيلتي وأنا ابن الشمس وربيبها وأحبها؟ وهكذا تمضي السنوات وسليمان يكبر شِعره ويصفو ويحلو إيقاع ويعلو، ويصبح حديقة تبهج الرائي .مرة، من سنوات بعيدة حين كنت مديرا لتحرير سلسلة «كتابات جديدة» قلت له اجمع بداياتك الشعرية لأنشرها لك في ديوان، فرح جدا بهذا الطلب، وقال لي : سيساعدني هذا في التخلص من كثير من قصائدي، وجمع من قصائده الأولى، ومن ديوانيه الأولين عشرين قصيدة سماها «قصائد أولى»، وعندما أصبحت رئيسا لتحرير سلسلة «ديوان الشعر العربي» قلت له : ما رأيك في الأعمال الكاملة؟ فرح كالريفيين، وكأنه غير مصدق ولكنه أحضر لي دواوينه كلها وصدرت مؤخرا في ثلاثة أجزاء بعنوان «ديوان محمد سليمان»، إنها حديقة وارفة تلقي بظلالها على جانبي الطريق، لعل المرايا تستكمل بها نقصان قسمات الناقد الذي يؤرخ للشعر السبعيني في جولاته بمقهى زهرة البستان .

 

كتب محمد سليمان افتتاحيته الشعرية الرسمية عام 1980 عندما أصدر ديوانه الأول « أعلن الفرح مولده « وكأنما يعلن عن ميلاده الشعري مقترنا بالفرح لم يكن هذا الميلاد الشعري خاصا بمحمد سليمان وحده وإنما شهد هذا التوقيت أيضا ميلاد جماعة أدبية ذائعة الصيت هي جماعة « أصوات » التي مثلت مع جماعة « إضاءة 77 » الحصيرة الأساسية التي ضفرت واحدا من أبرز وأهم أجيال الحداثة في الشعرية العربية وهو جيل السبعينيات هذا الجيل الذي خلط الفن بالسياسة والتجذير الثقافي والمعرفي بالتجريب الموسيقي واللغوي، وكما اشتبكت بياناته الشعرية مع بياناته السياسية، اشتبكت أيضا مغامراته الشكلانية مع ما كان سائدا من جمود القصيدة الرسمية التي تصر عليها المؤسسة الثقافية الرسمية في ذلك الوقت، اشتباك ما هو شعري بما هو سياسي ساهم في ملاحقة أبناء هذا الجيل أمنيا الأمر الذي أدي إلى سجن بعض شعرائه ومنهم محمد سليمان، واشتباك المغامرات التجريبية الفنية مع ثبات النص السائد الذي تروج له الدولة.

 

محمد سليمان لم يحصل على أية جوائز محلية، بالرغم من أنه في يقترب من السبعين وشعراء جيله كذلك، فعندما حصل حسن طلب على جائزة الدولة التشجيعية جاءته منقوصة وبالمشاركة مع من هو أقل منه قيمة وأقصر قامة فرفضها، وعندما حصل حلمي سالم على جائزة التفوق مررها عليه من يرون الدنيا مرة، وسحبوها منه، لكنني أظن أن الجائزة الكبرى التي حصل عليها محمد سليمان هي سريان شعره في عمق المتن الشعري للقصيدة الحديثة .

 

الشعر عند محمد سليمان ملقى على الطريق، قريب من يده وقلبه وعينيه، يكتب وكأنما يغرف من البحر، يحوم حول اللحظة العادية أو المفردة السهلة ويقولها كما هي لكنها عندما تتموسق داخل تفاعيل الرجز أو المتدارك كأنما تكتسب أسطرة من نوع ما فالشاعر باحث عن الأسطورة الممكنة أكثر من بحثه عن الأسطورة المستحيلة، هكذا يصبح التراث الشعبي عنده المادة الخام لأقنعة ورموز ودلالات، وتصبح نورا وهالة وجوليا مخلوقات شعرية أسطورية مستمدة من أناس عاديين فيما يصبح وجه سليمان النبي والملك التراثي وجها موازيا وجاهزا لسليمان الشاعر، وهي ليست غواية الوقوع في هوى الأسماء بقدر ما هي محاولة للبحث عن اسم الشاعر نفسه وقسمات وجهه، فعندما عثر الشاعر على شخصية سليمان النبي والملك التراثي والتي قدمها في ديوانه الشهير «سليمان الملك » كأنما ابتدأ بها تجربته الشعرية الأساسية معتبرا ما قبلها من شعر بل ومن دواوين مجرد توطئة أو عتبة أو خطوات أولى، وهو تجربة يغلفها الطابع الميتافيزيقي، أما في ديوانه «بالأصابع التي كالمشط » فتهبط الأسطورة إلى أرض الواقع حيث يستحيل الجلوس على المقهى ومصافحة الرفاق والنقاشات الجانبية إلى رموز أسطورية مركبة ومشحونة، وفي ديوانيه « أعشاب صالحة للمضغ » و « هواء قديم « يعود الشاعر إلى قريته وإلى أفراد عائلته وبيته الأول وعشقه الأول وطفولته في رحلة نوستاليجية تنهض على غزل وتضفير التذكرات وصولا إلى الواقع المعيش .

 

صار أباً لأبيه / وطفلاً لهذا الغلام الذي يُحْسن العدَّ حتى الثلاثينَ / سوف يخطُّ ويمحو يصدُّ ودودين ذابت ملامحهم في الدخانِ / وسوف يخبِّيء في الدرج شمساً / ليصُدَّ الوحوشَ / وسوف يشدّ بلاداً من الحبرِ بنتاً من الأرجوان .

 

ومؤخرا عثر الشاعر على تيمة أخرى، وكعادته لم تكفه قصيدة أو ديوان لكي يكتبها، استغرق الأمر منه حتى الآن ديوانين كاملين، وربما يكون أفق هذه التيمة لا يزال مفتوحا، حيث أراد الشاعر أن يبحث عن نفسه ليصل إليها، وارتأى لسبب ما أن معرفة الأنا تقتضى بالضرورة معرفة الآخر، وهكذا جاء ديواناه المتواليان « تحت سماء أخرى « و « أكتب لأحييك « فقد اكتشف الشاعر أن الآخر هو المكمل الحقيقي للأنا وهو النصف الذي بدونه تبدو شخصيتنا منقوصة، فليس الآخر شرا خالصا كما قال شوبنهاور وأيده في رأيه نيتشة، والآخر ليس جحيما كما قال جان بول سارتر وأيده في ذلك الوجوديون، هو صدى الصوت، ورد النداء، وتلويحة على البعد، هو في الأخير أقرب الطرق وأجملها للوصول إلى الأنا وللتعرف على الذات، والآخر قد يكون جارا أو أخا أو صديقا وقد يبدو في كثير من الأحيان عدوا لكن محمد يؤكد أن سماء تظللنا لذا فإنه يكتب ليحييه .

 

أريد أن أكلمكْ / الشمس في الكلام عادة تحبو / أريد أن أصير مخزناً لسرَّك الصغيرِ / أسراري سجينة في الصدرِ / أسراري كأنها السمكْ / أريد أن أسوق بعضَها لبحرك الصافي / أريد أن أريكَ حَجَري ولؤلؤي وصَدَفي.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق