ونحن بدورنا نسأل: كيف، وماذا نجدد؟ وهل يمكن أن يمس هذا التجديد ثوابت الدين ومصادر الأحكام الشرعية المقرَّرة، فنكتفى بتطوير أسلوب الخِطاب الدعوى وطريقة العرض وترسيخ حقائق الدِّين، وثوابته ومقاصده؟ أم أننا بحاجة إلى اجتهاد وفقه جديد يتماشى مع طبيعة العصر ومتطلباته، بما يتماشى مع مقاصد الشريعة الإسلامية التى جاءت لإسعاد البشرية؟
عرضنا القضية على الفقهاء، لبيان الكثير من الأمور والمفاهيم الخاصة بأحكام الشريعة ومقاصدها وثوابت الدين، ومجالات الاجتهاد، والفرق بين الاجتهاد والتجديد، والضوابط التى لابد أن تتوافر فيمن يتصدى لاستنباط الأحكام من أدلتها الأصولية فى القرآن الكريم والسنة والإجماع والقياس وغيرها.
التجديد والاجتهاد
فى البداية يؤكد الدكتور محمد كمال إمام أستاذ الشريعة بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية، أنه كثيرا ما يخلط الناس بين مفهومى التجديد والاجتهاد، فالاجتهاد فى أصله بذل الجهد والطاقة للوصول إلى حكم شرعى ظنى اجتهادي، بينما التجديد هو ملء الفراغ التشريعى بأحكام جديدة مأخوذة من أصول الشرع، من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا يمكن أن يشارك فيه أهل الاختصاص كل فى ميدانه، فرجل الاجتماع يضيف لبنة فى مجال التجديد بوصف الواقع من خلال تخصصه، والشيء نفسه يفعله الطبيب ورجل الإعلام وعالم النفس، فكل هؤلاء من أهل الاختصاص الذين يشتركون فى التجديد الذى حدث فى الواقع، حتى يمكن للفقهاء باجتهاد فردى أو جماعى الوصول إلى أحكام تتلاءم مع الواقع الجديد ويحقق مصالح الناس.
وأشار إلى أن التجديد إذن يكون فى النظم ويقوم به أهل الاختصاص فى كل مجال، والاجتهاد يكون فى الأحكام ولا يقدر عليه إلا المجتهد المتمكن من أصول الإسلام ومصادره وعلومه فى كل مجالات التشريع، فمقولة التجديد إذن لا تعنى أن يجتهد غير المختص فيقول فى دين الله بغير علم، وإنما تعنى المشاركة فى توصيف الواقع وتحديد المشكلات الجديدة وبيان مآلاتها وطبيعة تطوراتها حتى تأتى الأحكام الجديدة ملائمة للواقع حاكمة عليه محققة لمصالح الناس بلا حرج ولا تشدد.
وأوضح أن مقاصد الشريعة هى غايات الأحكام وأهدافها، التى ينبغى أن تراعى فى كل عقل يحاول استنباط فقه، ولدى كل شخص يحاول وضع نظام، لأن هذه الأحكام والأنظمة ينبغى أن تكون محققة لمقاصد الشريعة فى حماية الدين والعقل والنفس والعرض والمال، وليست مناقضة لها أو معارضة أو متجاوزة، مشيرا إلى أن نظرية الحفظ الخاصة بالمقاصد لا تتعلق بالأديان وإنما ترتبط أصلا بمصالح الإنسان، فعندما نقول حفظ الدين نعنى به حفظ كل دين على أرض المسلمين، فتحمى عبادة المسلم وغير المسلم، وتحمى جميع دور العبادة لجميع الأديان، وأيضا حفظ العقل والمال والعرض والنفس، بحيث تعطى مقاصد الشريعة بهذا الأفق المفتوح عالمية متكاملة، يستفيد منها المسلم وغير المسلم وتحمى منظومة حقوق الإنسان أيا كان فى كل زمان ومكان.
ضوابط التجديد
ويرى الدكتور رأفت عثمان عضو هيئة كبار العلماء، أن الاجتهاد كما عرفه علماء أصول الفقه الإسلامي، هو بذل الفقيه وسعه فى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، ومن هذا التعريف نلاحظ أن من يبذل وسعه وكامل طاقته العلمية والفكرية، لاستخراج الأحكام الشرعية من أدلتها هو الفقيه، وليس الطبيب أو المهندس، أو غيرهم ممن لا دراية لهم بالوسائل التى يستعان بها عند استخراج الحكم الشرعى لأى قضية من القضايا، موضحا أن الفقيه لا يقدر على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها إلا بعد تأهله العلمى لعدة علوم، ومن أهمها اللغة العربية، لأنها لغة القرآن الكريم وأحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكذلك لابد من الدراية بغايات الآيات فى القرآن الكريم وأحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن الضوابط أيضا ضرورة إلمام الفقيه بمقاصد الشريعة.
مقاصد الشريعة
وأشار إلى أن مقاصد الشريعة على وجه الإجمال هى تحقيق مصالح الناس، والمقاصد تنقسم إلى ثلاثة أقسام، هي: ضروريات، وحاجات وكماليات، موضحا أن الضروريات هى خمس، تتمثل فى حفظ النفس والدين والعقل والمال والعرض، وأى مجتمع يختل فيه أى من هذه الضروريات يكون مجتمعا مختلا مهما يكن تقدمه المادي، وأوضح مثال على ذلك الغرب، فرغم التقدم المادى فلا أمان لأحد على ماله أو نفسه أو عرضه، أما الحاجات فهى الأمور التى يخفف الشرع فيها على الناس حتى لا تلحقهم المشقة، مثل جواز إفطار المريض فى رمضان، أما الكماليات أو التحسينات فهى الأمور التى تدخل فى مكارم الأخلاق، فالإسلام لم يغفل جانب الأخلاق الكريمة كالصدق فى المعاملة وغير ذلك.
ويؤكد أنه يجب أن يكون من يجتهد لبيان الأحكام عالما بأصول الفقه، لأن علم أصول الفقه الذى اخترعه المسلمون ليسير عليه من يريد البحث عن الأحكام الشرعية، من مصادرها وهى القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع والقياس وغيرها من أدلة التشريع، فكما اخترع أرسطو علم المنطق ليحمى العقل الإنسانى عن الخطأ فى التفكير، اخترع المسلمون وخاصة الإمام الشافعى علم أصول الفقه، ليسير عليه الفقيه عند استخراج الأحكام، ولذلك فالاجتهاد ليس سهلا، وكل من يجرؤ على إدخال نفسه فى مجال بيان الأحكام، ولا يتمتع بالضوابط السابقة، يكون متجاوزا، أما الذى يذكر ما يراه الفقهاء فى أى مسألة، فهو ليس مجتهدا إنما ناقل للفتوي، ولابد أن يكون قادرا على التمييز بين آراء الفقهاء، وأن يكون ورعا.
وقال الدكتور الأحمدى أبو النور، وزير الأوقاف الأسبق، إن أول ما يجب أن نركز عليه فى تجديد الخطاب الديني، هو ما يتعلق بالتكفير، فالتجديد يبدأ من هنا، لأن الخطاب الدينى لابد أن يكون علاجا لأمراض المجتمع، وكل مجتمع لابد أن يركز فى تجديد الخطاب الدينى على المشكلات التى يتعرض لها، وكل هذه أمور تختلف من بلد لآخر، ولهذا نؤكد أن التكفير هو أكبر كارثة تواجه المجتمع، وبالتالى فمجال تجديد الخطاب الدينى لابد أن يركز على مواجهة التكفير، لأن التكفير يؤدى للتفجير والقتل والعنف، وبشكل عام وطبقا لمشكلات المجتمع، لابد أن يعمل الخطاب الدينى على تأكيد على وحدة الأمة وترسيخ السماحة واحترام الآخر، ومواجهة كل دوافع التكفير، وأن يركز الخطاب الدينى على بيان أنه لا يمكن لأحد أن يطلع على قلب الإنسان إلا الله عز وجل، ولا يصح أن نحاسب الناس على ما فى قلوبهم، لأن الكارثة أن البعض يكفر من ينطق بالشهادتين ويقوم بشعائر الإسلام، لكنه يختلف معهم فى الرأي, مشيرا إلى أن جماعة التكفير والهجرة كانوا يعتبرون أنفسهم الجماعة الوحيدة المسلمة فى العالم، وأن من يخالفهم هو كافر، وكانوا يعتبرون أن الإسلام هو مجموعة الفرائض فقط، وإذا قصر الإنسان فى واحدة ولم يتب، يعتبر فى نظرهم كافرا، ونسوا أن الإنسان ما دام غير مشرك فهو فى دائرة المشيئة، لأن الله يغفر الذنوب جميعا، فالمعاصى كلها يمكن أن يغفرها الله إذا شاء، ولذلك لابد أن يكون تجديد الخطاب الدينى قائما فى البداية على تصحيح هذه المفاهيم، لأن الحديث فى أى قضايا أخرى قبل مواجهة التكفير، لن يفيد, فكل المشكلات التى تواجه تجديد الخطاب الدينى تكون نتيجة للتكفير الذى يؤدى لاستحلال الدماء والأموال.
وفى سياق متصل يقول الدكتور محمد الشحات الجندي، عضو مجمع البحوث الإسلامية، إنه لا يجوز للمسلم أن يفصل بين ثوابت الدين وبين مقاصد الشريعة، وذلك لأنها منظومة واحدة يكمل بعضها بعضا، ويراد بها تكوين شخصية تؤمن بالله سبحانه وتعالي، وتعمر الكون وتواكب كل عصر لا تتخلف عنه وإنما تسهم فيه بقوة وإيجابية وعطاء خلاق، حتى تكون خلافة الإنسان فى الأرض كما أرادها الله سبحانه وتعالي. كما يجب أن يكون الالتزام بمقاصد الشريعة عاما على الجميع، فهى رسالة يتعين الوفاء بها، ولا يجوز الإخلال بها أو تعطيلها إذا أردنا إقامة مجتمع قائم على الفضيلة و حقائق الحياة لان من ضوابطها الحفاظ على حقوق الله تعالى وحقوق الإنسان.