رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

عشاء عائلى

للياباني: كازو آشيجيرو ترجمــة: حسـين عيــد
«فيجي»، هي سمكة، يتمّ اصطيادها من المحيط الهادي قبالة سواحل اليابان. وقد أصبحت لتلك السمكة أهمية خاصة بالنسبة لي منذ أن ماتت أمّي بسبب تناول واحدة منها. يكمن السمّ في الغدد الجنسية للسمكة، بداخل كيسين رقيقين.

 ينبغي ازالة هاذين الكيسين بحرص عند اعداد هذه السمكة، لأنّ أيّ فعل أخرق سيؤدي الى تسرّب السمّ الى الشرايين. وممّا يؤسف له، أنّه ليس من السهل معرفة ما اذا كانت عملية الازالة قد نفذت بنجاح أم لا. سيكون الدليل، مهما يكن، كامنا في الطعام.انّ تسمم سمك «فيجي» مؤلم بشكل مخيف، وهو مميت في جميع الحالات تقريبا. اذا أكل هذا السمك خلال المساء، فإن الضحية يباغت بالألم عادة أثناء نومه. ويظلّ يتقلب في عذاب بضع ساعات، قبل وفاته في الصباح. وقد أصبح ذلك السمك شعبيا تماما في اليابان بعد الحرب. ورغم فرض تعليمات أكثر صرامة فانّ من المثير للغيظ أن يجري الاعداد لتلك الوجبة الخطيرة بنفس مطبخ المرء، الذي يدعو جيرانا وأصدقاء للوليمة.كنت أعيش في «كاليفورنيا» خلال فترة وفاة أمي. كانت علاقتي مع والديّ قد انتابها توتر ما قرب تلك الفترة، وبالتالي لم أعلم بالظروف التي أحاطت بوفاتها حتى رجعت الى طوكيو بعد ذلك بعامين. ويبدو أن والدتي كانت دائما ترفض تناول سمك الـ«فيجي»، لكنها استثنت دعوة خاصة من صديقة مدرسة قديمة كانت تحرص على عدم اغضابها. كان والدي هو من زوّدني بالتفاصيل أثناء قيادة السيارة من المطار الى بيته في حي «كاما كيرا».


عندما وصلنا أخيرا، كنّا نقترب من نهاية يوم خريفي مشمس. وبعد أن جلسنا على أرضية من حصر «التاتامي» بداخل غرفة الشاي، سأل أبي:


هل أكلت على متن الطائرة؟


لقد قدّموا لي وجبة خفيفة.


لابد أن تكون جائعا. سنتناول الطعام حالما تصل «كيكيكو».


كان لأبي جرم هائل الحجم، ذي فك كبير مروّع، وحاجبين سوداوين غاضبين. أعتقد الآن عند المقارنة أنه يشبه كثيرا «تشو ان لاي»، رغم أننا لن نعتزّ باجراء مثل هذه المقارنة، لاسيّما وأنه فخور بما يجري في عروق أسرته من دماء الساموراي النقيّة. ولم يكن حضوره ممّا يشجع على اجراء محادثة خفيفة، ولا كانت كلماته تساعد كثيرا بأسلوبه الغريب في التوقّف أمام كلّ ملاحظة كما لو كانت ملاحظة نهائية. وبينما جلست مواجها له بعد ظهر ذلك اليوم، عاودتني، في الواقع، ذكرى من أيّام الطفولة للوقت الذي ضربني فيه عدّة مرات في كلّ أرجاء الراس «للثرثرة مثل امرأة عجوز». لذا كان محتّما، أن يتميّز حديثنا منذ وصولي الى المطار بوقفات طويلة.


قلت حينما لم يتحدّث أيّ منا لبعض الوقت:


أنا آسف لما سمعته عن الشركة.


أومأ برأسه، قائلا بحزن بالغ:


في الواقع، لم تنته القصّة عند ذلك الحدّ


ثم استطرد:


بعد انهيار الشركة، انتحر «واتاناب». لم يرغب في العيش مع العار.


اني أرى.


لقد كنا شريكين لسبعة عشر عاما. كان رجل مبدأ وشرف. كم احترمته كثيرا جدا.


سألت: هل ستعود الى العمل مرّة أخرى؟


انّني .. رجل متقاعد. عجوز الآن تماما لأورّط نفسي في مشاريع جديدة. لقد أصبحت الأعمال التجارية شديدة الاختلاف في هذه الأيام. تعامل مع أجانب. قيام بأداء الأعمال وفق أسلوبهم. لا أفهم كيف وصلنا الى هذا الحال. ولم يفهم «واتاناب» أيضا.


تنهد، مستطردا:


كان رجلا عظميا. رجل مبدأ.


تطلّ غرفة الشاي على الحديقة. أمكنني أن أتذكّر، حيث جلست، البئر القديم، الذي اعتقدت حين كنت طفلا أنه مسكون. كان واضحا الآن تماما عبر أوراق النبات الكثيفة، بعد أن غربت الشمس ببطء وسقط معظم الحديقة في الظلّ.


قال أبي:


انني سعيد، على أيّة حال، لأنك قررت العودة. آمل أن تكون أكثر من مجرّد زيارة قصيرة.


لست متأكدا ممّا ستكون عليه خططي.


بالنسبة لي، فأنا على استعداد لنسيان الماضي. كانت أمّك أيضا على استعداد للترحيب بعودتك دائما، مستاءة كما كانت بسبب تصرفك. أقدّر تعاطفك. وكما قلت، لست متأكدا ممّا ستكون عليه خططي.


استمر أبي: لقد توصلت الآن الى اعتقاد أنه لم تكن هناك نوايا شريرة في عقلك. لقد كنت واقعا تحت تأثيرات معيّنة مثل آخرين كثيرين. ربّما ينبغي أن ننس الأمر، كما أشرت.


كما تشاء. هل ترغب في مزيد من الشاي؟


عندئذ فقط تردد صدى صوت فتاة عبر البيت. نهض والدي على قدميه: لقد وصلت «كيكيكو».


كنا، أنا وأختي، دائما علي علاقة وثيقة على الرغم من فارق السنوات بيننا. بدا أن رؤيتي مرّة أخرى جعلتها مستثارة بشكل مفرط وحماسي، ولوهلة لم تفعل شيئا سوى قهقهة عصبية. لكنها سرعان ما هدأت بعض الشيء، حين بدأ والدي يسألها حول «أوساكا» وجامعتها. أجابته باجابات رسمية قصيرة. سألتني، بدورها، عدّة أسئلة، لكنها بدت مسكونة بالخوف من أن تؤدي أسئلتها الى موضوعات محرجة. وأصبح الحديث بعد حين، أكثر تشتتا مقارنة بما كان عليه قبل وصول كيكيكو. ثم نهض أبي قائلا:


لابد أن أحضّر العشاء. أعذرني من فضلك لكوني مثقل بمثل هذه الأمور. سترعاك كيكيكو.


استرخت أختي بوضوح تام بمجرّد أن غادر الحجرة. وفي غضون دقائق قليلة، كانت تدردش بحرية عن أصدقائها في «أوساكا»، وعن فصولها الدراسية في الجامعة. ثم قررت، فجأة، أننا ينبغي أن نتمشي في الحديقة، ومضت تخطو بخطى كبيرة الى الشرفة. ارتدينا صندلين من القشّ، كانا متروكين قرب سياج الشرفة منذ فترة طويلة، وخطونا الى الحديقة. كان ضوء النهار قد أختفى تقريبا.


قالت أختي، وهي تشعل سيجارة:


كنت أتحرّق شوقا الى التدخين، خلال نصف الساعة الماضية.


اذن، لماذا لم تدخني؟


التفتت التفاتة عابرة باتجاه المنزل، ثم ابتسمت ابتسامة عريضة ماكرة، فقلت:


أوهـ، اني أرى


خمّن، ماذا فعلت؟ لقد أصبح لي صديق الآن.


أوهـ، حقا؟


باستثناء أنني أتساءل عمّا يجب فعله، فلم أكوّن رأيي بعد


مفهوم تماما


هل تعرف أنه يضع خططا للذهاب الى أمريكا. وهو يريدني أن أذهب معه حالما أنهي الدراسة.


أفهم ذلك. وهل تريدين الذهاب الى أمريكا؟


اذا ذهبنا، فسنذهب بأسلوب السفر مجانا بايقاف السيارات.


ثم لوّحت كيكيكو بأصبعها أمام وجهي:


يقول الناس ان ذلك خطير، لكنني قمت بذلك في «اوساكا»، وكان أمرا طيّبا.


اني أرى. اذا ما هو الأمر الذي يقلقك؟


كنا نتبع ممرا ضيّقا ظهر خلال الشجيرات، انتهى الى بئر قديم. استمرت كيكيكو، بينما كنّا نسير، في جذب عدة نفثات من سيجارتها بطريقة مسرحية لا داعي لها.


حسنا .. انّ لديّ كثيرا من الأصدقاء الآن في «اوساكا». يعجبني ما هناك. ولست متأكدة بعد، من أنني أريد تركهم جميعا ورائي. و»سويشي» .. يعجبني، لكنني لست متأكدة من انني أريد أن أقضي معه كثيرا من الوقت. هل فهمت؟


أوهـ، تماما


ابتسمت ابتسامة عريضة مرّة أخرى، ثم تخطتني رأسا حتى وصلت الى البئر. قالت، بينما كنت أقتفي خطاها:


هل تتذكّر، كيف اعتدت أن تقول ان هذا البئر مسكون؟


نعم، أتذكّر


أطللنا، كلانا، على حدّ سواء، على جانب البئر. قالت:


أخبرتني أمّي انّ المرأة التي شاهدتها في تلك الليلة كانت عجوزا من مخزن الخضراوات. لكنني لم أصدّقها، ولم أخرج الى هناك وحدي أبدا.


اعتادت الأمّ أن تقول لي ذلك أيضا. بل انها أخبرتني ذات مرة أن العجوز اعترفت بكونها الشبح، وحسب ما يبدو لي فأنّ المرأة كانت تختصر الطريق عبر حديقتنا. أتخيّل أنها عانت بعض المتاعب من التسلق فوق هذه الجداران.


أطلقت كيكيكو ضحكة. ثم أدارت ظهرها الى البئر، ملقية نظرة محدّقة عبر الحديقة، قائلة بصوت غير مألوف:


لم تلمك أمّي أبدا، كما تعرف ظللت صامتا.


اعتادت أن تقول لي دائما، آنذاك، كيف أنه كان خطأهما، هي وأبونا لأنهما لم يربياك بشكل صحيح. اعتادت أن تقول لي كم كانا أكثر حذرا معي، وهذا هو السبب في كوني نشأت بشكل أفضل.


تطلعت الى أعلى، وقد عادت الابتسامة الخبيثة الى وجهها، وقالت: يا لأمي المسكينة نعم، يا لأمي المسكينة.


هل ستعود الى كاليفورنيا؟ لا أعرف. ينبغي أن أفكّر في الأمر. ماذا حدث لها؟ لـ» .. لـ»فيكي»؟


قلت:


انتهى الأمر تماما معها. لم يبق لي الكثير الآن في كاليفورنيا.


هل تعتقد أني ينبغي أن أذهب الى هناك؟


لم لا؟ لا أعرف. من المحتمل أن تحبينها


ألقيت نظرة نحو البيت:


ربما كان من الأفضل أن ندخل سريعا. قد يحتاج الأبّ الى بعض المساعدة لاعداد العشاء.


لكن شقيقتي كانت تلقي نظرة أخرى على البئر، قائلة:


انني لا أرى أيّ أشباح


تردد صدى صوتها قليلا.


هل الأب مستاء من انهيار شركته؟


لا أعرف. لا يمكنك التخمين مع الأب أبدا


ثم فجأة استقامت، واستدارت اليّ:


هل أخبرك عن العجوز «واتاناب»؟ وماذا فعل؟


سمعت أنه انتحر


حسنا، لم يكن ذلك كلّ ما في الأمر. لقد أخذ كلّ أسرته معه. زوجته وابنتيه الصغيرتين.


أوه، حقا؟


تلكما ابنتان صغيرتان جميلتان. لقد فتح الغاز بينما كانوا جميعا نائمين. ثم قام بشقّ بطنه بسكين لحم.


نعم، أخبرني الأب منذ قليل كيف كان «واتاناب» رجل مبدأ..


رواية قتل وعذاب


رجعت أختي ثانية الى البئر.


حاذري. والاّ ستسقطين فورا فيه


قالت:


انني لا أرى أيّ شبح. لقد كنت تكذب عليّ طوال ذلك الوقت.


لكنني لم أقل أبدا انه يعيش أسفل البئر


أين هو، اذن؟


تطلعنا، كلانا، حولنا الى الأشجار والشجيرات. بدأ ضوء الحديقة يعتم. أشرت في نهاية المطاف الى منطقة صغيرة مقطوعة الشجر على بعد عشرة ياردات


أبصرته هناك تماما. تماما هناك.


حدّقنا الى تلك البقعة.


كيف بدا؟


لم أستطع أن أرى جيّدا. كان المكان مظلما.


لكن لابد أنك رأيت شيئا


كانت هناك امرأة عجوز، واقفة تراقبني.


ظللنا نحدّق الى تلك البقعة، كما لو كنّا مفتونين. قلت:


كانت ترتدي كيمونو أبيض. كان بعض من شعرها منسابا. يتطاير قليلا من حولها.


دفعت كيكيكو بكوعها ذراعي مبدية اعتراضها:


أوه، كن هادئا. أنت تحاول اخافتي مرّة أخرى.


دهست بقايا سيجارتها، ووقفت تنظر اليها لفترة وجيزة بسيماء مرتبكة، وأهالت بعض ابر شجرة الصنوبر عليها، ثم أينعت ابتسامتها مرّة أخرى، وهي تقول:


دعنا نر اذا كان العشاء قد أعدّ


وجدنا أبي في المطبخ. منحنا نظرة سريعة، ثم استأنف ما يقوم به. قالت كيكيكو ضاحكة:


أصبح الأبّ رئيس طهاة عظيم منذ أن بدأ الاعتماد على نفسه.


استدار ونظر الى أختي ببرود، قائلا:


انني بالكاد أفخر بالطهي كمهارة. كيكيكو، تعالي هنا، وساعديني.


لم تتحرّك أختي لبضع لحظات. ثم تقدّمت، وتناولت مريلة متدلية من مشجب المطبخ.


قال لها: تحتاج هذه الخضروات فقط الى الطهي الآن. أما البقية فتحتاج الى المراقبة فقط.


ثم ارتفع بصره ناظرا اليّ بغرابة بضع ثوان:


أعتقد أنك تريد أن تتجوّل حول المنزل.


أنزل عودي الطعام اللذين كان يمسكهما، قال في نهاية المطاف:


لقد انقضى وقت طويل منذ أن شاهدته.


ألقيت نظرة خاطفة ثانية على كيكيكو، بينما كنا نغادر المطبخ، لكن ظهرها كان قد تحوّل الينا. قال أبي بهدوء:


انها فتاة طيّبة


تتبعت أبي من غرفة الى أخرى. لقد نسيت كم كان البيت كبيرا. انزلق لوح مفتوحا، فظهرت غرفة أخرى. لكن الغرف جميعا بدت لي خالية بغرابة. لم يظهر النور في أحدى الغرف، حدقنا الى الحوائط، وأرضية حصر «التاتامي» في الضوء الشاحب الذي جاء من النوافذ. قال أبي:


هذا منزل كبير جدا كي يعيش فيه رجل بمفرده. لم أعد أستخدم معظم هذه الغرف الآن.


وأخيرا، فتح أبي باب غرفة مزدحمة وممتلئة بكتب وأوراق. كانت هناك زهور في مزهريات، وصور على الحوائط. ثم لاحظت شيئا على مائدة منخفضة في ركن الغرفة. اقتربت، ورأيت نموذجا بلاستيكيا لدنا لمدمرة من النوع الذي يصنعه الأطفال. كانت موضوعة على بعض الصحف، وقد تناثرت حولها قطع متنوعة من بلاستيك رمادي.


أطلق أبي ضحكة. اقترب من المائدة، والتقط النموذج، قائلا: منذ أن انهارت الشركة، أصبح لديّ مزيدا من الوقت.


ضحك ثانية، بالأحرى بفتور. ولوهلة بدا وجهه لطيفا تقريبا:


هناك مزيد من الوقت


قلت: يبدو هذا غريبا، فقد كنت شديد الانشغال على الدوام! تطلع اليّ بابتسامة صغيرة:


شديد الانشغال على الدوام، ربّما. لكن لعلّه كان ينبغي أن أكون والدا منتبها الى حاجات الآخرين أكثر!


ضحكت. استمرّ في تأمل سفينته الحربية. ثم تطلع اليّ:


لم أكن أنوي أن أقول لك هذا، لكن ربّما كان من الأفضل أن أفعل. انني أعتقد أن وفاة أمك لم تكن وليدة الصدفة. كان لديها عديدا من مخاوف، وبعض خيبات أمل.


حدقنا كلانا، على حدّ سواء، الى سفينة الحرب البلاستيكية. في النهاية قلت:


بالتأكيد لم تكن أمي تتوقّع أن أعيش هنا الى الأبد


من الواضح أنك لا ترى. لا ترى كيف يكون وقع الأمر علي بعض الآباء والأمهات. اذ انهم لا يجب أن يفقدوا أطفالهم فقط، بل يجب أن يفقدونهم لأسباب لا يفهمونها أيضا.


أدار السفينة الحربية بين أصابعه، ثم استطرد:


ربّما كان من الأفضل تغرية هذه الزوارق الحربية الصغيرة. ألا تعتقد ذلك؟


ربّما. أعتقد أنها تبدو على خير ما يرام.


خلال الحرب قضيت بعض الوقت على سفينة مثل هذه. لكن طموحي كان دائما في القوات الجوّية. تخيّلت الأمر بهذا الشكل. اذا تعرضت سفينتك لعدوّ، فكلّ ما يمكن أن تفعله هو النضال في الماء آملا خلق طريق حيوي. لكن في طائرة. حسنا، هناك دائما سلاح حاسم.


أعاد وضع النموذج ثانية على المائدة، قائلا:


لا أظنّك تؤمن بالحرب


ليس كثيرا


ألقى نظرة حول الحجرة، وهو يقول:


ينبغي أن يكون العشاء قد أصبح جاهزا الآن. لابد أنك جائع


كان العشاء معدّا في غرفة مجاورة للمطبخ، مضاءة بضوء خافت. كان المصدر الوحيد للضوء هو فانوس كبير معلق فوق المائدة، مغرقا بقية الغرفة في الظلّ. انحنينا كلّ للآخر قبل بدء الوجبة.


كان هناك حديث قصير. وعندما أدليت ببعض تعليقات مهذبة حول الطعام، قهقهت كيكيكو قليلا. بدا أن عصبيتها السابقة قد عادت اليها. لم يتكلم والدي لعدّة دقائق. أخيرا قال:


ينبغي أن تبدو لك عودتك الى اليابان أمرا غريبا


نعم. أنها غريبة قليلا


ربّما تأسف، بالفعل، لمغادرة أمريكا.


قليلا.. ليس كثيرا. لم أترك ورائي شيئا كثيرا. فقط بعض غرف فارغة.


اني أرى


ألقيت نظرة عبر المائدة. بدا وجه أبي وسط العتمة مروّعا ومنفرا. أكلنا في صمت.


ثم التقطت عيناي شيئا على حائط الجزء الخلفي من الغرفة. في البداية، واصلت تناول الطعام، ثم سكنت يداي. لاحظ الآخران ذلك، ونظرا اليّ. ظللت أحملق الى الظلام عبر كتف أبي:


من التي في الصورة هناك؟


أيّ صورة؟


استدار أبي قليلا، محاولا أن يتتبع تحديقتي:


الصورة الأدنى. المرأة العجوز في الكيمونو الأبيض


أنزل أبي عودي تناول الطعام. تطلع الى الصورة أولا، ثم اليّ:


انها أمّك


أصبح صوته شديد الحدّة:


ألا تستطيع التعرّف على أمك؟


أمّي؟. المكان مظلم، كما ترى. لم أستطع أن أراها جيدا


لم يتحدّث أحد لبضع ثوان، ثم وقفت كيكيكو على قدميها. أنزلت الصورة من الحائط، ورجعت الى المائدة، وأعطتني اياها. قلت:


انها تبدو أكبر قليلا


قال والدي:


لقد صوّرت قبل وفاتها بوقت قصير


انّه الظلام. لم أستطع أن أرى بشكل جيّد


تطلعت الى أعلى، ولاحظت أن أبي قد مدّ يده. أعطيته الصورة. نظر اليها باهتمام شديد، ثم حوّلها باتجاه كيكيكو. نهضت أختي ثانية بانصياع على قدميها، وأعادت الصورة الى الجدار.


كان هناك وعاء كبير، ترك بغطائه في مركز المائدة. عندما جلست كيكيكو ثانية، تقدّم أبي الى الأمام، ورفع الغطاء. أرتفعت سحابة من البخار، وتكوّرت باتجاه الفانوس. دفع الوعاء قليلا باتجاهي، قائلا:


لابد أن تكون جائعا


سقط جانب من وجهه في الظلّ


شكرا


تقدّمت بعودي طعامي الى الأمام. كاد البخار أن يحرق أصابعي:


ماهذا؟


سمك انّ رائحته طيبة


كان في وسط الحساء شرائح سمك تكوّرت على شكل كرات تقريبا. التقطت واحدة، ووضعتها في طبقي


اخدم نفسك. هناك الكثير


شكرا


تناولت كميّة أخرى، ثم دفعت الاناء باتجاه أبي. راقبته وهو يأخذ عدّة قطع الى طبقه. ثم راقبنا معا كيكيكو وهي تخدم نفسها. انحني والدي قليلا:


ينبغي أن تكون جائعا.


قال مرّة أخرى. دفع بعض السمك الى فمه، وبدأ يأكل. اخترت أنا أيضا قطعة ووضعتها في فمي. شعرت باللحم ناعما ممتلئا تماما أمام لساني. قلت:


انه طيّب جدا، ما نوعه؟


مجرّد سمك


أنّه رائع جدا


تناولنا ثلاثتنا الطعام في صمت. مرّت عدّة دقائق


أتريد المزيد؟


هل يوجد ما يكفي؟


هناك الكثير بالنسبة لنا جميعا


رفع والدي الغطاء، فتصاعد البخار مرّة أخرى. تقدمنا جميعا، وخدمنا أنفسنا. قلت لأبي:


ها هي. لديك هذه القطعة الأخيرة


شكرا فرد أبي ذراعيه، حين أنهينا الوجبة، وتثاءب في جوّ من الارتياح، وقال: كيكيكو. من فضلك أعدي لنا اناء من الشاي.


نظرت أختي اليه، ثم غادرت الحجرة دون تعليق. نهض أبي:


دعنا نسترخي في الغرفة الأخرى. انها أكثر دفئا


وقفت على قدميّ، وتبعته الى غرفة الشاي. كانت النوافذ المنزلقة الكبيرة قد تركت مفتوحة، جالبة نسيما من الحديقة. جلسنا صامتين لوهلة. أخيرا قلت: أبي. نعم؟


أخبرتني كيكيكو أن «واتاناب» قد أخذ كل عائلته معه.


أنزل والدي عينيه وأومأ. بدا لعدّة لحظات مستغرقا في تفكير عميق. في النهاية قال:


كان واتاناب مخلصا لعمله. كان انهيار الشركة ضربة قاصمة له. أخشى انّه قد أضعف حكمه كثيرا


أتعتقد أن ما فعله .. كان خطأ؟


لماذا، بالطبع. هل ترى خلاف ذلك؟


لا، لا. بالطبع لا.


هناك أمور أخرى الى جانب العمل.


نعم. سقطنا في لجّة الصمت ثانية. وصل الينا صوت جراد من الحديقة. تطلعت الى الظلام في الخارج. لم يعد البئر مرئيا أكثر من ذلك. تساءل أبي:


ماذا تظن أنك فاعل الآن؟ هل ستبقي في اليابان لفترة؟


كي أكون صادقا، فانني لم أفكّر في الأمر حتى الآن.


لو رغبت في المكوث هنا، أعني هنا في هذا البيت، ستكون موضع ترحيب كبير. ذلك، اذا لم تمانع في أن تعيش مع رجل عجوز.


شكرا لك. سأفكّر في الأمر.


حدّقت الى الظلام مرّة أخرى. قال أبي:


لكن بطبيعة الحال. هذا المنزل شديد الكآبة الآن. لاشك أنك ستعود الى أمريكا قبل مضي وقت طويل.


ربما. أنا لا أعرف حتى الآن


لا شكّ ستعرف


بدا أن أبي يفحص ظهر يديه لبعض الوقت. ثم تطلع اليّ، وتنهد قائلا:


من المقرر أن تستكمل كيكيكو دراستها في الربيع المقبل. ربّما ترغب في العودة الى البيت عندئذ. انها فتاة طيبّة.


ربما تفعل.


عندئذ ستتحسن الأمور نعم، أنا متأكد أنها ستتحسن


سقطنا في لجة الصمت ثانية، بانتظار أن تحضر كيكيكو الشاي.


 


..............................


تعريف بالكاتب:


من مواليد ناجازاكي باليابان عام 1954، ارتحلت أسرته الى انجلترا عام 1960، فدرس هناك وحصل على الجنسية البريطانية عام 1982. يكتب بالانجليزية ويمارس كتابة السيناريو وله كثير من الأعمال الأدبية المشهورة والتي أعدّ بعضها للسينما.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق