رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

السلطة الرابعة

على الفور عندما يتم اختيارى النادر للمشاركة فى أى من اللجان الرسمية يطرق أذنى صوت شكرى سرحان فى فيلم «رُد قلبى» للكاتب يوسف السباعى وإنتاج آسيا عام 1957 وهو يقول عندما تم قبوله طالبا بالكلية الحربية بلا واسطة: «والغريب أن اللجنة قبلتنى والأغرب أن قبلت سليمان أيضًا»، وبعدما استوعبت لفترة مسألة وجود الاسم فى اللجنة الرئيسة لتطوير الإعلام المصرى ذهبت لحضور أول الاجتماعات بمقر الأكاديمية الوطنية للتدريب بمدينة الشيخ زايد برئاسة المهندس خالد عبدالعزيز رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام ووزير الشباب والرياضة السابق من يحمل له القلب إرث معزّة من نوع خالص وخاص وحميم، فساعة أراه أو يدوى اسمه فى المحيط أستشعر تفاؤلا للقادم على يديه، مع استرداد شعور براحة غابت عنى سنين تحضرنى فيها صورة والده الزميل والصديق الراحل محمود عبدالعزيز مدير تحرير الأهرام – فى زمن على حمدى الجمال – بهيئة المشيب الوقور رغم شرخ الشباب، والابتسامة المرحبة دومًا التى تغسل التوتر، والدور القيادى كحمامة سلام تصلح ما تُفسده النميمة والمنافسة، ليخرج محمود من مكتبه بالدور الرابع لصالة التحرير بالأهرام متوسطًا من كانا خصمين بعدما أصبحا بتدخله الملائكى بمثابة الشقيقين.. وكان أن تنازلت يوما عن استقالتى المسببة لأجل خاطره.. الإنسان الرائع الذى كتب الأديب يوسف إدريس مقالا متفردا عنه بعنوان «الدمث» قائلا إنه لم يجد أجدى ولا أجدر من ذلك الوصف الجامع والموجز والمعبر لمن بلغ أعلى مرتبة للأخلاق الرفيعة.

جلست وكلى آذان صاغية للنقاش الثرى الدائر المتداول بين أجيال الصحافة والإعلام من الرواد المخضرمين المجربين المتمهلين المتسامحين المنهكين بأصواتهم الخافتة التى تنبض بالكاد مع ذبذبات الميكروفون، وتصمت طويلا لالتقاط الأنفاس المتخاذلة إذا ما تم اختراق مسار أفكارها من تدخل خارجى عشوائى لاستعادة جمع شتات نقاطها المرتبة على سطور مفكرة العقل، لطرح حلول جذرية لمشاكل الإعلام عجزوا هم عن تحقيقها أو الوصول إليها، هذا بينما على الجانب الآخر تطلب الكلمة ولو فى غير دورها أصوات الشباب المنفعل الرافض المتعجل الطارح للقضايا وأسبابها وكيفية علاجها بصخب الطلقات المدوية، ويفض المايسترو فى الحال آفاق الاشتباك ليُحقق الفرصة لطرح آراء غالبية الحضور، كل هذا وأنا فى عجب بالغ من الزميل الجالس أمامى فى الجهة المقابلة من ترابيزة الاجتماع، صاحب العمر بين بين - أى لا هو بعد الستين وإن تخطى الخمسين - ذى الوجه الحالم الهادئ، والملامح الطيبة المتصالحة، والعيون التى يسكنها التساؤل والإجابة، والابتسامة التى لا تغيب، وكنت قد التقيت به فى أكثر من مجال إعلامى، وتصافحنا أكثر من مرة، لكن ذاكرتى الآن تجعل الشروخ الذهنية المتواترة تتسع تباعا ليسقط فيها أسماء أصدقاء العمر الطويل... الزميل الجالس قصادى طوال فترة الاجتماع التى قاربت على الأربع ساعات لم يرفع عينيه عنى مؤكدًا متابعتى بابتسامته الحنون، حتى إننى مكثت أشعر بالإحراج من التركيز المفرط نحو شخصى بالذات وليس أحدًا غيرى، ولو مددت مسطرة مرقمة بين نظراته ورأسى ستجدها فى مركز التسديد تماما، ولقد حاولت أكثر من مرة تنحية رقبتى أو الاستدارة بكامل جذعى لأكثر من جهة بعيدًا عن مسار يمينه أو يساره لأنقل إليه خلاصة رسالتى بأنه كفاية كده اهتماما بشخصى وشوف لك يا سيدى أحدًا غيرى.. وعندما أوشكت التعبير علانية غيرت رأيى وقمت مغادرة مكان الاجتماع لفترة راحة، والغريب أن وجدته فى عودتى مازال ينظر لمكانى الشاغر بنفس المتابعة الشغوف، واكتشفت أنه فى خلفيتى تماما تقع شاشة تليفزيون ضخمة تنقل جميع وقائع الاجتماع وشخوصه فى جميع الأركان، وأننى كنت بمثابة عامل تشويش على الزميل المقابل المهتم بما يقال ثانية بثانية، وأنه كان كريما معى إلى حد كبير إذ لم ينهنى عن التسبب فى قطع متابعته بانفعالاتى الرعناء.... وها قد تكونت لجان التطوير لأنضم إلى لجنة تطوير الصحافة الورقية والرقمية من بين لجان ثمانٍ سوف أحرص خلالها على النظر للخلف قبل الجلوس والتركيز فيما يقال ويعتمد لا فيمن يتابعنى بعينيه.

أجلس معهم، وأقعد مع نفسى، فى محاولة لفهرسة وتدبر مسألة تطوير الإعلام وواجهته الصحافة بشطريها الورقية والرقمية، فأجدنى فى البدء كنت قد سكنت عمارة ضخمة بها خمسون شقة لأصحابها من أطباء وقضاة ومهندسين وتجار ورجال أعمال الخ، هؤلاء معظمهم بأزواجهم وزوجاتهم وذريتهم من جميع الأجيال ومراحل التعليم المختلفة الخاص والعام، ليس فيهم من أصبح يولى اهتمامه بالجرنال الذى كانت له منزلة رغيف العيش اليومى والصديق الوفى فى البيت والشغل والمواصلة وقعدة القهوة، اللهم إلا إذا ما توفى أحد أقارب شقة التاسع أو الأرضى كمثال فإنه يرسل شغالته لتضرب جرس بابى لاستعارة النسخة الورقية الوحيدة فى العمارة لعدة دقائق لا غير لتتأكد الهانم أو البيه من عنوان سرادق العزاء، وأعطيه لها عن طيب خاطر مع توصيتى بقراءته كله ولو على سبيل التعارف بعدما صرت أظن أن صناعة الصحف أصبحت تندثر كصناعة الطرابيش..

هذا بينما لا يوجد فرد واحد بينهم وبين غيرهم لا يصاحبه الموبايل أينما أكل وشرب وقام ونام ودخل الحمام، وأقارن بين ما يدفعه المواطن محدود الدخل فى أى من خطوط المحمول المتأرجحة فأجده لا يقل عن 400 جنيه شهريا، بينما لا يتطلب ثمن جرنال ما سوى ثلاثة جنيهات أى 90 جنيها شهريا، ومن هنا ضاق حيز اتساع النظر والرؤية الشاملة إلى ضيق ملليمترات شاشة يغذيها الشاحن وتتلاعب بها الاختراقات السالبة الموجهة، وانقضى زمان تحليل الخبر إلى مجرد عنوان مختصر، وراحت فى خبر كان متعة قراءة القصص القصيرة والروايات المسلسلة لأصحاب الفكر، وقصائد لها وزن وأسعار البورصة ورسوم صحفية لكبار الفنانين، وأغلق الكتاب ضفتيه فلا الزمان ولا المكان ولا فقرات الهياكل والرقاب فى استطاعتها دوام الانحناء فوق المنمنمات، وأبدًا لن تقوم زهور الرسائل وفيروزات الصباح وتهانى الأعياد وعزاء المواقع وصور العيال بتوثيق الروابط العائلية المبددة مع لمسة الأصابع، وأنت إذا ما توقفت صدفة لمتابعة إعلان لسلعة على الجهاز فقد أصبحت ضحية على المشاع لكافة الشركات التى تنتج مثيلتها، حيث لن ينقطع الرنين فى أى من ساعات الليل والنهار مثل رنين مكاتب بيع العقار التى تعرض عليك فرصة لشراء المتر بثلاثة ملايين علي ناصية بركة السبع الثالثة صباحا، أما عن أسرار البيوت والنجوم والطلاق والموديلات الكاشفة فسوف تتبدد أيامك حقيقة، ويسرق عمرك وحياة النبى، فى متابعة تحركات دستة مشاهير بعينهم يتجمعون ويتفرقون مثل ورق الكوتشينة أينما حطوا الرحال من الجونة لبلاجات شرير الشمال، وعلى المتابعين لأحدث التريندات المليونية من بعد هوجة سرقة الأعضاء والواد اللى قطع زميله بالمنشار الكهربائى لمشاهدة منصات الكيد والردح ما بين الثرى العربى وأهلنا المجروحين.

وتتصدر الديون المثقلة المتراكمة على المؤسسات الصحفية التى تورِّثها الإدارات لبعضها أهم أسباب إعاقة انطلاقها وحيويتها، ليزداد الأمر سوءا بلا تعيينات جديدة لآلاف من خريجى كليات الإعلام على مستوى القطر، ولا تدريبات عملية - حيث قيل فى الاجتماع أن المتدرب الواحد يُكلف الدولة أكثر من مائة ألف وزيادة - وبلا مكاتب إعلامية فى الخارج لأزمة النقد الأجنبى، ومن يصلح للإعلام بمهارة اللغات الأجنبية لن يرضى بمرتب الثلاثة آلاف أعلى سقف للمعروض، ولا أى اهتمام بإعلام الطفولة وبرامجها وإصداراتها التى لم يعد لها وجود اللهم إلا المترجم منها بشخصياته ومناهجه المنفلتة واهتماماته التى يشذ منها الكثير، مع إغلاق مجلات المرأة لتوفير الورق والحبر، وانعدام الابتسامة التى يخلقها فن الكاريكاتير وكانت نكتة واحدة لصلاح جاهين توزع الجرنال بآلاف النسخ، حتى برنامج الكوميديا أغلق بالضبة والمفتاح على شاشة التليفزيون، وتحوَّل ماسبيرو زمان إلى إعادة لفوازير رمضان عندما كان يحيى الفخرانى فى شرخ الشباب.. وينجح المؤتمر العالمى نجاحا مبهرا وينقله الإعلام العالمى من شرم الشيخ - بلا احتكار- لصالح الإعلام المصرى ليعود دخله بثروة ضخمة، وحتى الآن لا نرى متابعة جدية للمشروع الذى سيحدث على أرض مصر ثورة حضارية وهو خط القطار السريع الذى يعد بمثابة شريان يضاهى شريان النيل وكان المثيل له منظومة أفلام أمريكية قامت بتأريخ السكة الحديد على أرضها، لنتابعها دومًا على أرضنا، ونموت من الضحك على وصف الشراقوه بالطيبة والكرم الشديد حتى يُقال أنهم عزموا القطر!!


وإذا ما كانت أبرز التحديات التى تواجه الصحافة الورقية اقتصادية فى أسعار الورق والأحبار وإشكالية التوزيع مما يعجِّز الوصول إلى جميع المحافظات خاصة فى فترة الصيف، حيث يذهب 25% من السكان إلى المدن الساحلية التى لا تصل إليهم فيها أعداد الصحف الورقية، فقل مثل هذا وأكثر منه، ولكن لا تتكلم أبدًا عن انحسار القراءة، فالإقبال المتزايد على معرض الكتاب عاما بعد عام يعد شهادة للإعلام الورقى وللكلمة المكتوبة، وبقاؤها مرهون بما تقدمه للقارئ مع الوضع فى الاعتبار بأن الصحافة الحرة ستبقى دومًا هى السلطة الرابعة ورمانة الميزان التى تكشف الفساد وتصحح الانحراف وتنقل بنزاهة وشفافية وحياد نبض الشارع لصاحب القرار وأن دعمها وإسقاط ديونها التى لا ذنب لصُنّاعها فيها لن يكلف أكثرمن تحويل جزء من أى منحة خارجية لها خاصة التى تظل مجمدة لا تجد سبيلا لإنفاقها بعدما تبددت الحاجة إليها، ولست اللاجئة لأقوال الخواجات لكنى أتوقف أمام مأثورة فولتير: الصحافة آلة يستحيل كسرها، ومهمتها هدم القديم المتداعى ليتسنى لها أن تنشىء عالما جديدا متطورًا.. و..خطوة على طريق التفاؤل يدفعنى الحرف الشريف وهدى نبض أجيال الشباب.

 

◙   ◙    ◙     ◙

اللـه اللـه يا بـدوي

التصوف ليس مهربا ولا منفي اختياريا يحمي العجزة والكسالي واللاهين، وإنما هو: عبادة تضبط العمل، وعمل يزكي العبادة، والدين سلوك لا مظاهر، وخاتم الأنبياء يقول: الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل.. و.. إطلاق اللحية سهل.. ولبس الجلباب الأبيض سهل.. وقراءة كتب الدين والعناوين واقتناؤها سهل.. والوعظ والكلام بالآية والحديث سهل.. ولكن العمل بأقل قدر منها هو الصعب.. الصعب هو أن يستبدل الواحد منا خلقا حسنا فيه بآخر سيئا، ويستبدل التواضع بالكبر، واللين بالفظاظة، والعفو بالانتقام، والحلم بالغضب، والتروى بالاندفاع، والزهد بالشراهة.. من الصعب أن يغير أحدنا إعجابه بنفسه إلي معرفته بها حتي تصبح نفسه العدو الأكبر بعد أن كانت المعبود الأكبر، ولا يخلو زمان ولا مكان من المدعين والكذابين والمتاجرين بالدين.. ويقابلهم أيضا بفضل الله رجال علي الطريق الصحيح.. رجال أفشوا السلام.. رجال صدقوا يبذلون حياتهم في سبيل الحق والإصلاح.. رجال مسيرة خل نفسك وتعال.. رجال الصوفية الحقة أمثال الشيخ أبي الحسن الشاذلي ومحيي الدين عربي وإبراهيم الدسوقي.. و.. و.. والسيد أحمد البدوي..

السيد.. لقب إذا ما أطلق مجردا لا ينصرف إلا علي السيد البدوي وحده..

السيد أحمد البدوى الذى كان حجم المشاركة هذا العام فى مولده يفوق الوصف ليبلغ المليونى زائر - وإن كان الحضور المكثف أمرًا معتادًا فى هذه المناسبة - مما أثار تساؤلات وجدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعى وبين الإعلاميين حول طبيعة الممارسات التى تحدث فى المولد وحدودها بين الإيمان الشعبى والموروث الدينى، حيث رأى الأزهر ودار الإفتاء أن السيد البدوى ولى من أولياء الله الصالحين يُنظر إليه «كقطب عارف وولى» سليل آل البيت وإمام عارف، وأن محبته من أمارات الصلاح وأن شهرته الواسعة وكراماته جعلت من طنطا مركزًا روحيًا وعلميًا منذ استقراره فيها، حتى أصبح جامع الأحمدى يوصف بأنه «شقيق الجامع الأزهر»، وأن البدوى من كبار أولياء الأمة المحمدية الذى جمع بين الحقيقة والشريعة وبلغ الغاية فى الأخلاق، وجاء فى قول الشيخ محمد متولى الشعراوى بأنه من المحبين لسيدى أحمد البدوى وأن تاريخه طويل ومجيد وأن له كرامات.. ويظل قول الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر بوصلة للاتجاه فى أى من أمور اليقين وهو المردد لمعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم النظر للاختلاف إذا ما وجد هناك السواد الأعظم الذى هو بمثابة الإجماع بل مصدرًا للتشريع.. وكان الرئيس أنور السادات من أكثر المريدين للسيد البدوى وحريصًا على زيارة مقامه فى طنطا بانتظام، حيث يجد فى رحابه السكينة والطمأنينة، وقبل اتخاذه قرار حرب أكتوبر سافر لوجهته فى طنطا ساعة أزمع فيها بالتنفيذ ليصحبه الشيخ أحمد حجاب إمام وخطيب المسجد إلى غرفة مقتنيات السيد البدوى وألبسه جبته وسبحته وبشَّره بالنصر وأوصاه أن يجعل شعار الجيش المصرى: الله أكبر.. وكان السادات مزودًا بعزيمة ما جاء فى رؤية الشيخ الصوفى عبدالحليم محمود شيخ الأزهر آنذاك من رؤيته الرسول صلى الله عليه وسلم يحارب مع الجيش والعلماء وعادوا معهم بأسرى العدو.

شيخ العرب أحمد العارف بالله.. البدوي. البدري. الملثم. الزاهد. الفتى. «العطاب» لفظ مغربي معناه الفارس المقدام. محرش الحرب. «أبوالعباس» العباس من أسماء الأسد. الأسد الكاظم. جياب الأسير الذي شاع غناء المصريين له: الله الله يا بدوي جاب اليسرى، أى الذى أتى بالأسرى بفضل كراماته بقيودهم من أسر الإفرنج.. أبو فراج. ندهة المضام. ولي الله. الصامت. الزاهد. بحر العلوم. باب النبي.

العارف بالله. السطوحي نسبه لأنه أقام بالسطح ببيت الشيخ ركن الدين ليجعله مركزا لجامعته. العيسوي نسبة إلي سيدنا عيسي، الصالح، الصامت شيخ العرب... تلك ألقابه.. أما اسمه الحقيقي فهو أحمد بن علي بن إبراهيم وينتهي نسبه إلي الإمام الحسين، وكان أجداده قد رحلوا من الحجاز سنة73 هـ. في عصر الدولة الأموية عندما زاد اضطهاد الحجاج بن يوسف الثقفي للعلويين، واستقروا بمدينة فاس ليتزوج إبراهيم جد أحمد بابنة شقيق السلطان واسمها أسماء لتلد عليا الذي تزوج بدوره فاطمة المزينة ــ بنت محمد بن عبدالله بن مدين بن شعيب من بني مزينة من زقاق البحر بغرب مراكش، وكان عم أمها سلطان المغرب ــ فولدت له ثمانية من الأبناء: حسن ومحمد وأحمد وفاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم وفضة، وكان مولد أحمد البدوي في نهاية عام596 هـ بمدينة فاس بعد سقوط الدولة الفاطمية وقيام الأيوبية علي يد صلاح الدين بنحو29 سنة.. وكانت فاس منتجع القاصدين والعلماء وبها جامع القرويين مركز إشعاع الفكر الإسلامي حتي قيل فيها يكاد العلم يتفجر من حيطان فاس، وهناك حفظ البدوي القرآن وشرع في علم القراءات والتفقه علي مذهب الإمام مالك، ومع بلوغه هاجرت أسرته إلي مكة المكرمة عام609 هـ مرورا بمصر حيث استقرت بها خمس سنوات تسكن القرافة ــ وهو اسم بلدة كبيرة بأسواقها ومساجدها وليست منطقة للمقابر ــ وذلك في عهد الملك العادل سيف الدين شقيق صلاح الدين الأيوبي.

وإذا ما كان أحمد البدوي قد تفقه في المغرب علي مذهب الإمام مالك لسيادة المذهب المالكي في بلاد المغرب والأندلس فإنه لما قدم مع أسرته إلي مصر كان المذهب الشافعي هو السائد فيها فاستهواه ليتفقه علي المذهبين المالكي والشافعي، وفي مكة مكث ينهل العلم ويختلط بالناس ويتقن الفروسية ليلقب باسم أبوالفتيان ولازم الصيام، وداوم علي القيام، واتخذ من جبل أبي قبيس خلوة له.. وقرر الرحيل إلي العراق عام634 هـ ليزور بغداد ثم أم عبيدة بلدة الرفاعي.. وأفاض الله عليه أنواره وأمر بالسير إلي مصر حيث وصلها عام637 هـ ليميل وجهه تجاه طنطا التي كانت تعرف وقتها باسم طندتا، حيث دخلها في عهد الملك الكامل بن العادل ابن شقيق صلاح الدين الأيوبي لينزل بدار الشيخ ركين التاجر ويقيم بسطحها ما يقرب من12 سنة وينال فيها خيرا عميما بفضل بركات ونفحات البدوي، وقد اختار الإمام السطح لعدة اعتبارات منها رفع المشقة والحرج عن الداخل إلي المنزل والخارج منه، والمحافظة علي الوقت بحيث لا يعطله متطفل دون مبرر، ومراعاة أوقات الصلاة والدعاء، وإطلاق عنان الفكر مع السماء الواسعة في الاستغراق والتأمل، إلي جانب أن السطح رمز للقمة والسمو وللارتقاء في ذروة كماله واتصاله، ومن هنا أطلق علي دعوته السطوحية.. ومن بعد وفاة الشيخ ركين انتقل السيد البدوي إلى دار ابن شحيط ــ شيخ الناحية ــ فأقام بها 28 سنة حتي لقي ربه، وهذه الدار تقع في داخل المسجد الأحمدى الحالي، وكانت بالقرب من مسجد البوصة أقدم مساجد طنطا والذي عرف في القرن الثالث عشر الهجري باسم مسجد البهى، الذي كان له شأن عظيم في تاريخ البدوى، فقد سكن بالقرب منه وكان يتعبد فيه ويقيم صلواته، وكان له إمامان يصليان به، وإذا جن الليل يقرأ القرآن إلي الصباح.. وفي أكثر أوقاته كان شاخصا إلي السماء، ويسألون خليفته عبدالعال الأنصاري: كيف كان حال الشيخ علي السطح؟ وهل كان كثير الغياب كما يقولون؟ فيجيب المريد بأن حضوره أكثر من غيابه.. وكانت جامعة السطح منتجعا للعلم والمعرفة يؤمه العلماء والمجادلون من كل درب، وكان قاضي القضاة بالديار المصرية يبعث بمندوبه ــ من كبار العلماء ــ ليسأل الإمام البدوي عما يندر الإلمام به من ضروب المعرفة، فيستفيض في الجواب حتي يستغرق رده علي مسألة علمية في علوم التصوف ما بين الظهر والعصر..

ومن أبرز تلاميذ البدوي الذين تخرجوا في جامعة السطح الأحمدية علي مدي ثمانية قرون وتولوا الدعوة والهداية داخل مصر وخارجها الإمام عبدالوهاب الشعراني والإمام نورالدين الحلبي وأيضا الدكتور عبدالحليم محمود الذي جاء في كتابه السيد أحمد البدوي في ص46 عن علاقة البدوي بالقرآن: بمجرد الاستقرار بمكة بدأت الدراسة المنتظمة، فقد أجاد القرآن، وأجاد فن التجويد، وأتقن تعلم القراءات، فكان يقرأ القرآن بالقراءات السبع..

هذا وإن كان انشغال البدوى في الدعوة وتربية النفوس لم يتح له الوقت للكتب والتأليف فكان ممن يردد لسان حالهم «كتبي صدور أصحابي» مع أن التاريخ قد حفظ بعض مؤلفاته وضاع البعض الآخر منها لعوامل سياسية مثل فتح السلطان سليم الأول العثماني لمصر923 هـ ــ1517 م ونقله معه للأستانة كل ما عثر عليه من مؤلفات وتحف ونفائس من بينها مؤلفات البدوى.. نقلها سليم إلي متاحف الأستانة ومنها للمتاحف الأوروبية ومكتبات برلين وليبزج وباريس وجوتا وغيرها، كما أشارت بذلك دائرة المعارف الإسلامية.. ومن مؤلفات البدوى الموجودة في مصر حزب الإمام البدوى، ومجموعة من الأدعية والصلوات علي النبي التي صنفها عبدالرحمن بن مصطفى عيدروس في القرن الثانى عشر الهجرى وسماها فتح الرحمن، ووصايا من تعاليمه الصوفية إلي خليفته عبدالعال الأنصارى، وكتاب «الأخبار في حل ألفاظ غاية الاختصار في الفقه الشافعى»، هذا إلى جانب من الأشعار الصوفية في علم الحقائق والمناجاة والابتهالات أودعها الشاعر المعاصر فاروق شوشة في مجموعته الشعرية «أحلي عشرين قصيدة في الحب الإلهى»..

وأبدا لم يكن البدوي منعزلا عن قضايا مجتمعه.. كان بين الحرب والمحراب فقد اشترك وأتباعه في حروب الصليبيين في المنصورة أمام لويس التاسع عشر فكان لهم النصر، وفي ذلك ذكر الإمام الحلبي في سيرته ولم يكن في فرسان مكة والمدينة أشجع ولا أفرس منه حتي سمى محرش الحرب، وفي أكثر من مرجع أن السيد أحمد البدوى كان أحد رجال الفتوة الصوفية في مصر في العصرين الأيوبي والمملوكي، وكان لها دورها البطولي في صد الحملة الصليبية السابقة، والاشتراك في اصطياد الصليبيين كأسري في طلعات فدائية، وفي كتاب شذرات الذهب لابن العماد: إنه بوصول السيد البدوي إلي مصر قادما من المغرب تلقاه الظاهر بيبرس بعسكره، وأكرمه وعظمه، وكان البدوي محل إعظام الملك قاهر التتار وموجها له..

ومن صفات البدوي أنه كان ضخما طويل القامة غليظ الساقين عظيم الوجه خفيف العارضين كث اللحية قمحي اللون أكحل العينين أقني الأنف طويل الذراعين بوجهه ثلاث حبات من أثر الجدري، في خده الأيمن واحدة وفي الأيسر اثنتان، وعلي أنفه شامتان في كل ناحية شامة سوداء، وندبة بين عينيه من طعنة بموس إثر جرح تسبب فيه ولد أخيه الحسن بالأبطح حين كان بمكة، يعلو وجهه الكبير مسحة من الهيبة والجلال، ولصوته غير الجهير نبرات حادة حاسمة.. مرحا إذا شاء المرح. جادا إذا شاء الجد. ضنينا في أخباره حريصا في عباراته، ومن عاداته محبة أن يسأله الناس وغضبه إذا تركوا سؤاله.. ويسألون لماذا لم يتزوج السيد البدوي فتأتي الإجابة لانصرافه إلي العبادة، وقد يكون من عوامل إعراضه عن الزواج ما رواه المؤرخون من أن أخاه الحسن تزوج سنة617 وتزوج أخاه محمد سنة626 ولكون أحمد يليهما في السن، فقد كان من المفترض أن يليهما في الزواج، إلا أن والده توفي سنة627 وبعدها لحق به محمد عام631 فتفككت الأسرة ليعزف البدوي عن الزواج عندما عرضه عليه أخوه الحسن قائلا له أنا موعود بألا أتزوج إلا حور العين.. وتبرز في سيرة البدوي قصته مع فاطمة بنت بري التي وثقها المؤرخون وكان من أبرز المثبتين لها الإمام الشعراني والدكتور عبدالحليم محمود والشيخ نورالدين الحلبي، ويختصر الشعراني القصة بقوله: كانت بنت بري امرأة لها حال عظيم وجمال بديع وكانت تسلب الرجال أحوالهم فسلبها سيدي أحمد البدوي حالها وتابت علي يديه وتفرقت القبائل التي كانت قد اجتمعت حولها أعواما وكان شرط البدوي في العفو عنها ألا تعود للتعرض للرجال وأن تعيش برأس مالها.. وقد أشاد بهذه القصة المستشرق فولرز في صدر ترجمته عن الإمام البدوي إشادة رائعة حيث قال: ثم إنه انتصر علي فاطمة بنت بري التي كانت تسلب الرجال أموالهم ورفض الزواج منها..

في حين وصف المؤرخان ليمتان وماينز في دائرة المعارف الإسلامية قصة فاطمة بأنها مغرقة في الخيال والعاطفة وأنها تعود إلي الأساطير المصرية القديمة.. هذا رغم ثبوت أن فاطمة من عشيرة بري إحدي العشائر البدوية التي كانت تقطن في شمال العراق قرب الموصل، وتسير علي نهج الإمام أحمد الرفاعي.

ويسجل التاريخ أشعار فاطمة في حكايتها مع السيد البدوي والتي منها:

كتبت في دفتر التأويل قصتنا

لكونها فاقت الأخبار والسيرا

لما ركبت وجئناه لننظره

رنا إلي ولي قد طول النظرا

لما أتانا عرفناه بحليته

قلت أكرموه ولا تبدوا له ضررا

ونهضت قمت علي الأقدام قائمة

وقلت خذ مهجتى والسمع والبصرا

شلت الخمار عن وجهي لأفتنه

ثم السوالف قد أسدلت والشعرا

شال اللثامين عن وجهه وبينه

كأن عينيه جمر يقدح الشررا

ناديته باسمه جهرا وكنية

فلم يجبني ولم يبد لنا خبرا

وتأتي وصية السيد البدوي لخليفته عبدالعال: يا ولدي أوصيك بتقوي الله في السر والعلانية، وإياك والاستغراق في حب الدنيا واعلم يا عبدالله أن أحسنكم خلقا أكثركم إيمانا..

ولا.. يصلح الناس إلا إمام، ولا يصلح الإمام إلا بالناس!


لمزيد من مقالات سـناء البيـسى

رابط دائم: