حروب إسرائيل ودروس الحرب العالمية الثانية

كلما تابعت على شاشة التلفاز مسيرة العدوان الإسرائيلى على الشعب الفلسطينى والأساليب المجرمة التى يتبعها جيش الاحتلال لفرض سيطرته على الأرض، والدفع بسكانها الأصليين بعيدًا بعد أن أصبحت أرض غزة غير صالحة للإقامة البشرية نتيجة الضربات الجوية والهجمات الصاروخية التى سقطت على شعب غزة برجاله ونسائه وأطفاله والعالم يرى تلك الأوضاع ويتابعها على امتداد العقود الماضية حيث تتأرجح علاقات الدول بالشعب الفلسطينى صعودًا وهبوطًا وفقًا لاتجاهات التحالف غير المقدس بين إسرائيل والإدارات الأمريكية المتعاقبة، ومحاولات إقصاء شعب كامل بماضيه وحاضره وتراثه من الوجود، ولقد اكتشفت من تأمل مشاهد العمليات العسكرية أن خبرة إسرائيل فى الحروب مستمدة من الحروب العالمية الكبرى خصوصًا الحرب العالمية الثانية، باعتبارها أكبر الحروب وأكثرها قسوة فى التاريخ المعاصر.

ولأن أدبيات التاريخ العبرانى كانت تدور دائمًا حول التجارة بما فيها من مضاربات وقروض بالمعنى الحديث لكلمة الربا فلقد توهمنا أنهم لن يكونوا محاربين بالمعنى المعاصر للكلمة حتى أن إسماعيل باشا صدقى له قول مأثور فى أربعينيات القرن الماضى مخاطبًا فيه العرب قائلاً عن اليهود (لاتحاربوهم حتى لايتعلموا القتال فيجيدوه فإنهم ما من مهنة عرفوها إلا برعوا فيها، ويكفى أن نعرف أن اليهودى التاجر هو ذاته الذى أصبح الزارع المتميز خلال عقود قصيرة من الزمان فوق أرض فلسطين المغتصبة تأكيدًا لمعنى التفوق الذى يحرصون عليه، فأصبحت خبرتهم الزراعية والعسكرية مثارا للانتباه لأنهم بدأوا من حيث انتهت الدول الغربية التى عاشوا فيها وجاءوا منها) ولقد نقلت ملاحظتى هذه إلى صديقى العزيز أمين عام جامعة الدول العربية ووزير الخارجية الأسبق السفير أحمد أبو الغيط باعتباره واحدًا من أبرز دارسى تاريخ الحروب العالمية مع تخصص طوعى فى يوميات الحرب العالمية الثانية والنجاح والإخفاق الذى حققته دول الحلفاء ودول المحور أيضًا.

وقد انبرى الدبلوماسى المخضرم يشرح لنا دائمًا أن المعارك الشرسة التى وقعت فى ميادين القتال فى أوروبا أو فى مواجهة الفيلق الإفريقى، أو حتى فى الشرق الأقصى مع اليابان، حيث يؤكد الجميع أن اليهود هم من شهود العيان فى تلك الحرب الدامية، وأنهم خرجوا منها بمعاناة شديدة تحت مسميات الهولوكوست وأفران الغاز وسجون النازى، فإذا بهم يطبقون تلك التجارب الأليمة على أرض فلسطين ويحاولون زرع الدمار والخراب فى كل اتجاه يصلون إليه، ولقد طبقوا ماذاقوه فى أوروبا على الشعب الفلسطينى فوق أرضه العربية وعلى امتداد قرن ونصف قرن لم يتورعوا عن عمليات التخريب والتفجير والدمار وزرع الإرهاب ونشر الجريمة، وكأنما يصفون حسابهم مع جلاديهم الأوروبيين فوق الأرض الفلسطينية التى اغتصبوها وشردوا أهلها ويسعون اليوم إلى تهجير البقية الباقية منهم حتى تخلو الأرض من سكانهاالأصليين ليسرقها الصهاينة لصوص التراث ومغتصبو الحقوق الذين لم يتورعوا عن ارتكاب أبشع الجرائم متجاهلين كل قوانين الشرعية الدولية والمشاعر الإنسانية وحقوق الأطفال ومعاناة النساء، إننى أكتب هذه السطور والمنطقة العربية تمر بواحدة من أسوأ فترات تاريخها إن لم تكن أسوأها على الإطلاق، بينما أرى فى ذلك الصراع أنه ثقافى بالدرجة الأولى يحمل فى طياته جوانب تاريخية ومعتقدات دينية وسلوكًا بشريًا مختلفًا بين الجانبين العربى الأصيل فى المنطقة صاحب الحق والصهيونى الوافد الدخيل المغتصب لها، ولأن الحقوق لا تنال بالعدالة ولكنها تخضع لمنطق القوة فقد فرض الإسرائيليون على شعوب العالم بأسرها أن يشهد مذابح غزة الدامية، ولا يكون رد الفعل إلا عبارات الإدانة والشجب والمظاهرات هنا وهناك دون تدخل قوى دولية لردع إسرائيل وإيقافها عند حدها.

ولقد تغير العالم وهناك موجة كراهية كبرى اليوم _لا تخفى على أحد – من المستوطنين والقادمين من خارج الأرض الفلسطينية فى محاولةِ لإثبات الوجود وفرض سياسة الأمر الواقع والتلويح بالتهجير الطوعى بديلاً عن التهجير القسرى، ولقد برع الإسرائيليون دائمًا فى إطلاق المسميات بدءًا بالعبارة الشهيرة (وطنك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل) وصولا إلى عبارة ( عربات جدعون) تلخيصًا للمأساة التى يمارسها الاحتلال ضد المدنيين من أبناء الشعب الفلسطينى الباسل الذى يناضل كل فرد فيه حتى الموت ولنا فى ابنة السنوات الخمس "هند رجب" أسطورة كبرى تتحاكى بها الأجيال فى كل القوميات ومختلف الثقافات.. إننى أقول الآن إن كل جرائم إسرائيل التى نراها هى خلاصة لتجارب عديدة جرت فى الحربين العالميتين خلال القرن العشرين، ولم تتورع الدولة الصهيونية عن تطبيق المشاهد على الحالة الفلسطينية، فإذا بذلك الشعب القوى الصلب يزداد إيمانًا بحقه وتمسكًا بأرضه وفضحًا للمؤامرة الكبرى ضده .