رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

يوم رحيل هيكل

لا أنسى ذلك اليوم من عام 2016 حين نعى الناعى رحيل أشهر كاتب صحفى فى تاريخ مصر المعاصر والذى تابع أحداثها وتغيراتها فى العصرين الملكى والجمهورى, وكان شخصية استثنائية إلى جوار الزعيم جمال عبد الناصر، بل لقد شاطره الفكر وقاسمه فى كثيرٍ من الأحيان إبداء المشورة وتقديم الرأي، إنه محمد حسنين هيكل كاتب كل وثائق الثورة تقريبًا بدءًا من كتاب «فلسفة الثورة» مرورًا بالميثاق الوطني، وبيان 30 مارس، وحتى خطاب تنحى الرئيس عبد الناصر وغيرها من الوثائق المهمة فى تاريخ مصر المعاصر فهو صاحب المكانة الصحفية الرفيعة والقيمة الدولية المرموقة، وإعمالاً لوصيته رحمه الله نقل جثمانه يوم وفاته إلى مسجد سيد الشهداء سيدنا الحسين للصلاة عليه، وانتدب المشيعون اثنين من الحاضرين لإلقاء كلمتى وداع الراحل الكبير فى لحظات وصول جثمانه إلى المسجد، ودعى اثنان من الحاضرين للتحدث وهما العبد لله الذى كان شديد التعلق بهيكل فى حياته ولا يزال بعد مماته، والدكتور عبد الله النجار الأستاذ المعروف بجامعة الأزهر، وألقيت يومها كلمة تعكس الشعور العام للحاضرين فى وداع شخصية كبيرة وإنسان متميز والكل متأثر برحيل عقل عربى استثنائى بكل المعاني، فقد برع هيكل فى التحليل السياسى على نحو غير مسبوق، وقامت الدنيا ولم تقعد دائمًا بأثر من مقالاته الأسبوعية أو محاضراته التى كان يستخدم فيها عبارات تبقى فى وجدان الشباب ومسيرة الوطن نحو مستقبل أفضل.

وما إن انتهينا من كلمات الوداع حتى وضع الجثمان أمام المحراب وصلى عليه مئات الحاضرين فى ذلك المسجد الذى كان يعتز به عندما كان يصطحبه جده رحمهما الله للصلاة معه فى ذلك المسجد المبارك الذى يحمل اسم ابن بنت رسول الله وشهيد شعبوية جده فى مواجهة نخبوية معاوية وبنى أمية عمومًا, إنه الإمام الحسين رضى الله عنه، أتذكر ذلك اليوم دائمًا كلما طاف بى خاطر يلوح فيه أو يبدو منه المقام الرفيع الذى احتله الأستاذ هيكل فى حياتى الشخصية وتكوينى الفكرى حتى اليوم، فقد كان رحمه الله يملك شخصية, جذابة وكبرياءً مستحقة وروحًا سامية, ومازلت أتذكر مداعباته فى أحاديثه الرقيقة، فقد قال لى ذات يوم أنت تناقش الكثير من الرسائل الجامعية حيث تبدأون بالثناء على صاحبها، ثم تقولون «ولكن» لتنهال بعدها الانتقادات، وأنا اقترح عليك ما قاله خصوم أحمد الصاوى محمد تعليقًا على بعض مقالاته فى أربعينيات القرن الماضى, حيث قالوا إن كل صحيح يأتى فى مقالاته ليس جديدًا, وإن كل جديدٍ فيها ليس صحيحًا، بل وهجاه البعض قائلين إنه إذا ألف ترجم وإذا ترجم ألف فى نقدٍ لاذع فى ظل أجواء طيبة لعلاقات إنسانية هادئة ومشاعر نظيفة بخلاف الأجواء القاتمة والشخصنة الدائمة لكل حوار نشهده فى وقتنا الحالي.

وقد امتلك هيكل منذ فترة مبكرة عقلاً استباقيًا قلما يجود الزمان بمثله، بل إننى عندما شهدت حواراته مع الإعلامية المرموقة الأستاذة لميس الحديدى لفت نظرى بشدة ماذكره مثلاً عن سد النهضة، وكأنما كان يقرأ من كتابٍ مفتوح قبل تداعى الأحداث بالشكل الذى آلت إليه اليوم، ولحسن الحظ أن السيدة الفاضلة قرينته «هدايت هانم تيمور» وأولاده المحترمين على وأحمد وحسن قد حملوا عنه جينات الذكاء, وبعد النظر, والرؤية والوفاء للآخر، ولقد ترك هيكل مؤسسة صحفية ثقافية تقدم مسابقات سنوية لشباب الصحفيين والصحفيات فى مصر تكريمًا لتلك المهنة، باعتباره «الجورنالجى الأول» كما كان يلقبه الراحل مفيد فوزى والذى كتبت شخصيًا مقدمة كتابه الطويلة بناءً على طلب المؤلف رحمهما الله، لقد كان هيكل يرى بعينى زرقاء اليمامة ببصيرة بعيدة ورؤية ثاقبة، كما أننى أظن أن الأستاذ هيكل كان يحمل فى أعماقه مخزونًا عاطفيًا كبيرًا كبح جماحه وكتم انطلاقه فى كثير من الأحوال، ولقد تابعت حديث ابنه الأوسط الدكتور أحمد وهو يحكى عن دموع والده عندما أصيب ابنه وفلذة كبده بمرضٍ عضال وشاءت عناية الله أن يشفى منه، وأن يبقى هو وأخواه قرة عينٍ لذلك الرجل.

وأتذكر اليوم كيف منعت من الكتابة بالأهرام لأننى كتبت عنه مقالاً صادقًا وضافيًا، وأعطيته ما يستحقه فإذا بمنعى من الكتابة يستمر أكثر من عام، حتى تدخل الكاتب الكبير أسامة سرايا رئيس تحرير الأهرام آنذاك لدى الرئيس الراحل مبارك واستأنفت الكتابة بعد انقطاع بدعوى أننى أعطيت هيكل أكثر مما يستحق، خصوصًا عندما تجاوزت الحديث وقلت له (لك العتبى حتى ترضي) ولكننى كنت أعبر عن شعورى الخاص تجاه رجل هو صاحب الفضل على جيلى وأجيال سبقتني، وأخرى تأتى من بعدى من الصحفيين والسياسيين ... ولعلى أتذكر الآن بكل الرضا والسعادة أننى تمكنت وأنا مدير لمكتبة الإسكندرية من استضافة مكتبته العامرة ومذكراته الشخصية المهمة التى تعتبر اليوم أحد المعالم المرموقة فى ذلك الصرح الثقافى الكبير .. رحم الله الأستاذ هيكل ولتبقى لحظات وداعنا له تذكارًا إنسانيًا لا يختفى.


لمزيد من مقالات د. مصطفى الفقى

رابط دائم: