فى خطوة غير مسبوقة تم الإعداد لها لأكثر من عشرين عاما، أعطى نيتانياهو فى لحظة مفصلية لتاريخه وحياته السياسية، ضربة البداية لحرب مفتوحة بدأت فجر الجمعة الماضية، فى مقامرة سياسية وعسكرية غير مأمونة العواقب لإسرائيل ورهان على مستقبل نيتانياهو السياسى، فإما دخول التاريخ الإسرائيلى من أوسع الأبواب، أو كتابة الفصل الأخير لمستقبله السياسى، حيث لم يجرؤ أى من زعماء تل أبيب على تجرع كأس السم بالمواجهة المباشرة مع إيران، فمنذ عهد شارون رئيس وزراء الكيان الراحل عاشق رائحة الدماء، وصرخات البكاء المرير لفقدان الضحايا فى فلسطين ولبنان، وكان ذلك عام 2002 عند اكتشاف تفاصيل بداية انطلاق البرنامج النووى الإيرانى، ومن بعده شخصيات لابأس بها من رؤساء الحكومات المتعاقبين، لم يدر بخلد اى منهم الدخول فى مواجهة مميتة مع طهران، بل فضلوا لغة التهديد بحق إيران، وصولا إلى شخص نيتانياهو الذى أراد تغيير قواعد اللعبة والاشتباك العسكرى، حتى لو اضطرت إسرائيل هذه المرة إلى دفع أثمان كبيرة من أجل التخلص والى الأبد من وصية الإمام الخومينى قائد ثورة الملالى فى طهران عام 1979، بان إسرائيل غدة سرطانية فى الإقليم لابد من استئصالها، ولذا قبل نيتانياهو التحدى وعجل بالمقامرة السياسية فى حربه المفتوحة مع إيران، التى ربما تستمر لشهور، وليس أيامًا معدودة كما يظن البعض فى تل أبيب أو الإقليم، فإيران قوة لايستهان بها فى معادلات القوى الكبرى فى الإقليم، لذا فالحرب الطويلة وسقوط الضحايا والتخريب الممنهج للمؤسسات العسكرية والمدنية فى كلا البلدين ستكون عنوان المرحلة الرئيسية لشهور، ناهيك عن عنصر المفاجأة الوارد فى سجالات تلك الحروب المفتوحة على كل الاحتمالات سواء شرق أوسطية أو دولية بانضمام أطراف اخرى لها إذا اقتضت الحاجة وتعارضت المصالح الإقليمية والدولية.
لامبالغة فى أن الضربة الافتتاحية لتلك الحرب ولمدة الـ 17 ساعة الأولى كان التفوق الإسرائيلى مدهشًا، لكن مع بدء تبادل القصف وموجات الصواريخ الإيرانية باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الغرب الإسرائيلى تغيرت المعادلة، وهذا التفوق المبدئى الإسرائيلى كان نتاج اختراق لسنوات للموساد الإسرائيلى داخل إيران، الذى نجح فى جمع كل المعلومات الخاصة بأماكن منشات البرنامج النووى الإيرانى، والعلماء الذين دشنوا هذا البرنامج ومقار إقامتهم، وكذلك الحال مع كبار قيادات وجنرالات الجيش والحرس الثورى الذين سقطوا فى الدقائق العشر الأولى من بدء الهجمات الإسرائيلية، ولكن القصة الحقيقية لسقوط إيران فى فخ الخداع الإسرائيلى، كان مثيرًا وفيه شىء من دقة الإحكام الإسرائيلى - الأمريكى، خاصة أن قصة هذا الخداع استمرت لأكثر من خمسة أشهر، والبداية كما كشف الإعلام الأمريكى النقاب عنها أمس، وأكدها إعلام تل أبيب بفصول وأسرار أعمق، ليؤكدا ثنائية التواطؤ بين نيتانياهو وترامب منذ الساعات الأولى لنجاح ترامب فى الانتخابات، حيث كان رئيس الوزراء الإسرائيلى أول المهنئين لترامب بفوزه، ويومها طالبه بالوفاء بوعده هذا المرة مع وصوله للمرة الثانية للبيت الأبيض بالقضاء على إيران وحكم آيات الله هناك، وساعتها أبلغه ترامب أن عليه الانتظار والتريث حتى يوم 20 يناير، وعندها سيحقق له المراد، وبالفعل ذهب نيتانياهو ليكون أول الزائرين للبيت الأبيض للقاء ترامب، ويومها نسجت تفاصيل تلك الخطة التى قوامها خداع إيران بإجراء مفاوضات مباشرة مع واشنطن لعدة جولات حتى تجهز تل أبيب خطتها عسكريا وسياسيا، وطيلة جولات المفاوضات الوهمية تكون طهران قد استسلمت تماما، خاصة مع توسيع اجتماعات المفاوضات، لتفاجأ بالضربة الإسرائيلية، وهذا مافعله نيتانياهو بعد الاتفاق مع ترامب مساء الخميس الماضى فى اتصال هاتفى بينهما، حيث أعطاه الضوء الأخضر كما ذكر الإعلام الأمريكى.
ولذا أقول إنه بعد أن تبينت طهران الخديعة، بات يستحيل عليها العودة سريعا للمفاوضات المباشرة مع أمريكا، حيث بات هذا الأمر مستبعدا، وأن جوهر استمرار وإطالة زمن المواجهة الحالية مع إسرائيل هو الهدف الاسمى لبقاء واستمرار حكم ولاية الفقيه، دون تقديم أى تنازلات فى الأسابيع الأولى، خاصة أن إيران بات لديها يقين أن الهدف الأكبر لإسرائيل ونيتانياهو شخصيا من الحرب هو التخلص من نظام طهران، بجانب بنك أهداف يشمل التخلص من التهديد النووى الإيرانى، وإنهاء برنامج الصواريخ الباليستية ووقف أسطورة التصنيع الإيرانى للطائرات المسيرة، ولذا فالحرب قد تستمر معنا شهورا، ولنا فى حرب السنوات الثمانى بين إيران والعراق العبرة، ولكن كل هذا لايمنع انه بعد أسابيع ربما تنجح جهود وقف تلك الحرب، وهذا لن يتحقق إلا عبر وسيلتين الأولى، اقتراب تل أبيب من تحقيق انتصارات سريعة على إيران، أو يتم الاتفاق الأمريكى الروسى بالضغط على الجانبين، خاصة ان العلاقات بين بوتين وترامب الآن أكثر من جيدة وبينهما تلاق غير معهود بين القيادات سابقا فى البلدين، خاصة أن بوتين لديه علاقات متكافئة أيضا مع إيران وتل أبيب كل على حدة، وعندئذ يمكن إضافة سلطنة عمان لموسكو لإقناع طهران بالعودة للمفاوضات، ونفس الأمر يمارسه ترامب على إسرائيل، مع الأخذ فى الاعتبار انه ستكون هناك شروط جديدة ومطالب مختلفة لكل طرف فى جولات تفاوض قد تستغرق شهورًا، لأنها ستبدأ بآليات مختلفة عن السابق، مع تمسك إيران بشرطين جوهريين، استمرار بناء البرنامج النووى بحجة الاستخدام العلمى والسلمى، وضمان بقاء حكم ولاية الفقيه، وعندها هل تقبل إسرائيل بذلك، أم تنتظر دخول ترامب على خط الحرب لدعم تل أبيب وتغيير المعادلة فى طهران، كل ذلك يبقى رهنا بوقائع قادم الأيام على الأرض ومن يصمد! ومن يعلن نهاية المعركة وبشارة النصر المدوى والظافر.
لمزيد من مقالات أشرف العشرى رابط دائم: