كان تمدينُ بلاد وشعوب وُصفت بأنها بدائية أحد أهم الشعارات التى استخدمها أوروبيون غُزاة خلال المرحلة الاستعمارية. زعموا أنهم يحملون حضارة الرجل الأبيض، وأن الاستعمار ليس إلا عبئًا لابد أن يقوم به من أجل نشر الحضارة والعلوم والمعارف. وادعوا أن من أخضعوهم ونهبوا ثروات بلادهم، أو سعوا للقضاء عليهم حين قاوموا فيما كان يُسمى «العالم الجديد»، يفتقرون إلى أدنى استعداٍد لتطوير موارد الأراضى التى يعيشون فيها، ولا يعرفون لها قيمةً وإلا كانوا قد اهتموا بها.
وبُنى على هذه المزاعم أنه لا مغبة فى أخذ هذه الأراضى بدون قبولهم أو رغمًا عنهم، لأن هذه هى السبيل الوحيد لترقيتهم وتمدينهم ونقلهم إلى حياةٍ حضارية، وانتشالهم من ركودهم الطويل وانغماسهم فى خرافات وأساطير، وتحرير عقولهم التى أغلقوها، فصاروا معزولين عما كان يحدثً فى العالم.
هكذا حاول من احتكروا الحضارة والتحضر إضفاء شرعيةٍ أخلاقية على الاستعباد والاستعمار. وكان هذا أحد أُسس ما أُطلق عليها حضارة الرجل الأبيض، التى ظل كُثُر فى العالم مخدوعين بها رغم انكشاف حقيقتها. فليست مساندةُ الإجرام الصهيونى المهول فى قطاع غزة المرة الأولى التى تُكشف فيها حقيقةُ هذه الحضارة.
لكن حقيقتها لم تكن واضحةً كل هذا الوضوح. غطت إنجازاتُها أحيانًا بشاعة الأساس الاستعمارى الذى قامت عليه، وعادلت مساوئها فى أحيان أخرى. وأسهم فى ذلك تصديق كُثُر فى العالم الزعم بأن المبادئ المُنيرة التى انتشرت منذ القرن الثامن عشر هى غريبةُ أصلاً ومنشأ، وما هى فى الواقع إلا محصلةُ تراكمٍ عبر التاريخ كان للحضارة الإسلامية وغيرها من الحضارات أدوار متفاوتة فيه، ونتيجةُ نضالٍ شاركت فيه أكثر الشعوب سعيًا للتحرر من قيود شتى.
غير أن ما يحدثُ فى قطاع غزة لابد أن يزيل ما بقى من غشاوة على أبصار وبصائر من صدَّقوا مزاعم من يُهيمنون على البلدان الغربية، وراهنوا على شرفاء كُثُر فيها يقفون مع الحق، ولكنهم عاجزون حتى الآن عن كسر تحالفات السياسة والمال التى تهيمن على بلادهم وتُخّربُ العالم، وتُكرس خواءً حضاريًا نبقى معه غدًا.
لمزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد رابط دائم: