إحدى أهم السمات التى تميز المرحلة الراهنة فى النظام الدولي، والذى يمر بمرحلة انتقالية مهمة، هى سعى القوى الدولية، خاصة القوة المهيمنة حتى الآن متمثلة فى الولايات المتحدة الأمريكية، إلى إعادة فرز الترتيبات والمحاور الدولية، بل والشراكات الاستراتيجية القائمة، بشكل يؤثر فى توزيع القدرات الاستراتيجية الإجمالية لكل «محور» أو منافس استراتيجي. إدارة ترامب الأولى (2017 2021-)، بدأت هذا التوجه بإنشاء «الحوار الأمنى الرباعي» (كواد) فى نوفمبر 2017، الذى يضم بجانبها كلا من الهند وأستراليا واليابان، والذى استهدف -بجانب تعميق التشاور السياسى والأمنى بين الدول الأربع حول التطورات الاستراتيجية فى منطقة المحيطين الهادى والهندى (الإندوباسيفيك)- محاولة زيادة مساحة الخلاف والتنافس بين كل من الهند وأستراليا من ناحية والصين من ناحية أخري. ثم جاءت إدارة بايدن (-2021 2025) لتوسع هذه السياسة من خلال ترقية «كواد» إلى مستوى القمة، ثم استحداث تحالف «أوكوس» الذى يضم بجانب الولايات المتحدة كلا من أستراليا والمملكة المتحدة، ليمثل خطوة أكثر وضوحا فى اتجاه توسيع المسافة بين أستراليا والصين.

المرحلة الراهنة تشهد استمرار السياسة نفسها فى منطقة الإندوباسيفيك من خلال تكثيف الضغوط والإغراءات على دول جنوب شرقى آسيا (آسيان) بهدف دفعها لأخذ مسافة بعيدا عن الصين، ومزيدا من التقارب مع الولايات المتحدة وحلفائها، من خلال توظيف النزاع القائم فى بحر الصين الجنوبي، وتعميق العلاقات الأمنية مع عدد من دول المنطقة، ودفعها إلى إعادة النظر -بشكل فردي- فى سياسة الحياد التى يتبناها آسيان، ودعم عملية بناء التحالفات والأبنية الأمنية الجديدة. وجاءت إدارة ترامب الراهنة لتسرع من هذه السياسة من خلال عدد من المسارات. أولها، الدخول فى مفاوضات مباشرة مع روسيا وممارسة الضغوط على أوكرانيا بهدف إنهاء الحرب الجارية بينهما منذ فبراير 2022. أحد أهداف الولايات المتحدة من هذا المسار هو تحررها من الأعباء المالية والعسكرية الناتجة عن دعم أوكرانيا، بل وتعويض الأعباء التى تكبدتها خلال السنوات الثلاث الماضية، لكن لا يمكن -بجانب ذلك- إغفال هدف آخر ضمنى غير معلن هو توسيع المسافة بين روسيا والصين، إذ من المتوقع أن يتضمن هذا المسار التفاوضى بناء توافقات/ صفقات أمريكية- روسية بشأن بعض الملفات الأخري، أو على الأقل قد يؤسس لمثل هذا التوافقات/ الصفقات.
فى الاتجاه نفسه، بدأت الولايات المتحدة مسارا تفاوضيا مع إيران بشأن برنامجها النووي. أحد الأهداف المتصورة لهذا المسار هو سعى الولايات المتحدة إلى توسيع الفجوة بين إيران وكل من الصين وروسيا؛ إذ من شأن الوصول إلى اتفاق جديد حول البرنامج النووى الإيرانى أن يفتح المجال أمام تحول نوعى فى علاقات إيران مع الولايات المتحدة والاقتصادات الأوروبية، على غرار ما أسس له اتفاق عام 2015. ولا يقتصر الأمر على شد العديد من الفاعلين الإقليميين بعيدا عن الصين كمركز مهم فى الصراع الراهن على قمة النظام العالمي، لكنه يتضمن أيضا شد الأطراف الثانويين أو الفرعيين بعيدا عن المراكز الإقليمية. يمكن أن ينسحب ذلك على الحوار الأمريكى مع حركة حماس كجزء من سياسة إضعاف أذرع هذه الأطراف الإقليمية، على نحو يصب فى التحليل الأخير فى مصلحة سياسة شد الأطراف بعيدا عن المركز الرئيسي. كما يمكن أيضا فهم العديد من السياسات البينية على مستوى بعض الأقاليم كجزء أو امتداد لسياسة «شد الأطراف» على المستوى الدولي.
لكن يظل السؤال هل ستنجح سياسة شد الأطراف الجارية فى تحقيق أهدافها؟ هناك عدد من الملاحظات أو المحددات التى قد تثير الشكوك حول فرص نجاح هذه السياسة. أول هذه المُحَدِدات يتعلق بقدرة المسارات التفاوضية المفتوحة حاليا على التعامل مع الشواغل الأمنية «للأطراف»، ومدى استعداد الولايات المتحدة لتقديم حوافز حقيقية تضمن دفع هذه «الأطراف» إلى اتخاذ قرارات استراتيجية بإعادة النظر فى ارتباطاتها الدولية؛ وتقييم هذه الأطراف لمصالحها المختلفة فى اللحظة الراهنة فى تطور النظام العالمي، وما إذا كانت هذه المصالح تمثل «مصالح حيوية» لا يمكن التنازل عنها أم مصالح ثانوية؟ وحجم الخسائر المترتبة على إعادة النظر فى هذه الارتباطات. المُحَدِدْ الثاني، يتعلق بالخبرات السابقة. من ذلك، على سبيل المثال، المسار التفاوضى الذى كانت قد بدأته إدارة ترامب الأولى مع بيونج يانج فى يونيو 2018، والذى كان من بين أهدافه المتصورة شد بيونج يانج بعيدا عن حليفها التقليدى الصين. لكن عمليا، لم تنته هذه السياسة إلى تحقيق أهدافها؛ إذ لم تتناول القمم التى عُقدت بين الرئيس ترامب والزعيم الكورى كيم جونج أون كل القضايا الرئيسية موضوع الخلاف بين الطرفين، ولم تؤسس هذه القمم لمسار تفاوضى مستقر يتعامل مع الشواغل الأمنية للطرفين أو القوى الإقليمية المعنية، ولم تُقْدِم الولايات المتحدة على تقديم حوافز حقيقية لبيونج يانج تدفعها إلى بدء إعادة تقييم استراتيجى للصراع القائم، ومن ثم لم تستطع الولايات المتحدة انتزاع تنازلات حقيقية من بيونج يانج. يرتبط بذلك أيضا مدى استدامة توافقات يمكن الوصول إليها، وتُقدِم خبرة الانسحاب الأمريكى أحادى الجانب من الاتفاق الموقع مع إيران فى عام 2018 مثالا مهما فى هذا الإطار. مثل هذه الخبرات تُعدْ بالتأكيد دروسا مهمة أمام الحالات الراهنة، وتثير الشكوك حول إمكانية الحصول على تنازلات أو توافقات مستدامة موثوق بها.
وأخيرا، وليس آخرا، فإن تقييما إجماليا ومتكاملا لهذه السياسة لابد أن يأخذ فى الاعتبار تأثيراتها على جميع الأطراف، بما فى ذلك الحلفاء القائمين. على سبيل المثال، كيف سيؤثر المسار التفاوضى مع روسيا وطبيعة مخرجات هذا المسار على علاقات الولايات مع حلفائها الأوروبيين؟ كذلك، فإنه سياسة شد الأطراف هى عملية ديناميكية؛ ففى الوقت الذى تقوم فيه القوة المهيمنة على النظام العالمى حتى الآن بممارسة هذه السياسة بهدف إضعاف المراكز المنافسة، فإن الأخيرة تسعى هى الأخرى إلى الحفاظ على حلفائها فى مختلف الأقاليم.
خلاصة القول، إذا كان النظام العالمى قد دخل مرحلة سياسة شد الأطراف، فإن نجاح هذه السياسة سيظل مرهونا بمحددات عديدة، وليس هناك ما يضمن نجاحها بالضرورة.
-----------------------------------------
لا يقتصر الأمر على شد العديد من الفاعلين الإقليميين بعيدا عن الصين كمركز مهم فى الصراع الراهن على قمة النظام العالمي، لكنه يتضمن أيضا شد الأطراف الثانويين أو الفرعيين بعيدا عن المراكز الإقليمية. يمكن أن ينسحب ذلك على الحوار الأمريكى مع حركة حماس كجزء من سياسة إضعاف أذرع هذه الأطراف الإقليمية، على نحو يصب فى التحليل الأخير فى مصلحة سياسة شد الأطراف بعيدا عن المركز الرئيسي
[email protected] لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات رابط دائم: