لا جدال أن الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكى دونالد ترامب للشرق الأوسط هى زيارة مهمة بكل المعايير. من حيث التوقيت، تأتى هذه الزيارة فى ظل مرحلة شديدة الخطورة بالنسبة للتفاعلات التى تشهدها الملفات الرئيسية بالإقليم، وعلى رأسها ملف العدوان الإسرائيلى الجارى على قطاع غزة، وما يرتبط به من ملفات أخرى، والبرنامج النووى الإيراني، وأمن الملاحة فى البحر الأحمر، بالإضافة إلى الملفات التقليدية الأخرى مثل لبنان وسوريا، وغيرها. بعض هذه الملفات يحكمها حاليا مسار تفاوضى مثل مشروع الهدنة فى غزة، والبرنامج النووى الإيراني. ليس من المتوقع أن تشهد زيارة ترامب تحولات نوعية بشأن كل هذه الملفات، إذ فى الأغلب ستتعامل هذه الزيارة مع ملفات محددة، سترتبط بالأساس بالعلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة ودول الخليج العربي، وملفى الهدنة فى غزة والمساعدات الإنسانية أو أحدهما.

انطلاقا من هذا الاستنتاج، وانطلاقا من وضع الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الرئيسية داخل النظام العالمى على الأقل حتى الآن ــ وانطلاقا من حرصها المؤكد على الحفاظ على وضعها هذا داخل النظام العالمي، وانطلاقا من أهمية هذه الزيارة من الناحية الرمزية على الأقل التى تشير إلى إدراك الولايات المتحدة وإدارة ترامب باستمرار أهمية إقليم الشرق الأوسط للمصالح الأمريكية؛ انطلاقا من كل ذلك أطرح هنا عددا من الملاحظات قبل وصول الرئيس ترامب إلى المنطقة.
الملاحظة الأولى، لا خلاف أن الولايات المتحدة لديها خريطة محددة لأهدافها ومصالحها فى الإٍقليم، لكن لابد من التمييز هنا بين وجود هذه المصالح والأهداف وبين وجود إستراتيجية ورؤية أمريكية محددة بشأن الإقليم. المصالح يمكن أن تؤسس بالتأكيد لعلاقات وتوافقات بين الولايات المتحدة والعديد من القوى العربية، لكنها لا تمثل شروطا كافية لبناء علاقات إستراتيجية حقيقية ومستدامة، كما لا تؤسس بالضرورة لضمان استقرار وأمن الإقليم. الوصول إلى هذين الهدفين يتطلب وجود رؤية إستراتيجية أمريكية لمستقبل هذا الإقليم، وليس فقط تحديدا ــ حتى وإن كان واضحا ــ لمصالح وأهداف الولايات المتحدة. مثل هذه الرؤية الإستراتيجية يجب أن تُبنى استنادا على تحليل أمريكى دقيق وموضوعى لمصادر التهديد الرئيسية لأمن الإقليم، وانطلاقا من فهم واعتراف بالشواغل الأمنية لجميع دول المنطقة، وليس لشواغل طرف محدد دون باقى الأطراف. وتزداد فرص بناء هذه الرؤية الاستراتيجية فى هذه المرحلة فى ظل اتجاه معظم دول المنطقة إلى مراجعة حالة الاستقطاب الإقليمي، بل فى ظل استعداد الإدارة الأمريكية الحالية لمراجعة علاقاتها مع إيران، بل الدخول فى مفاوضات مع فاعلين من دون الدولة فى المنطقة (حماس). واستعداد الولايات المتحدة لتجاوز الموقف الإسرائيلى فى هذين الملفين.
الملاحظة الثانية، أن الرئيس ترامب كان قد تحدث عن مفاجأة سيتم إعلانها مع هذه الزيارة، وتتحدث معظم التحليلات عن احتمال الإعلان عن التوصل إلى هدنة مؤقتة أو ربما دائمة فى غزة، أو الإعلان عن بدء نفاذ المساعدات الإنسانية للقطاع، وهى «مفاجآت» مهمة إن أُعلن عنها بالفعل، لكنها تظل لا ترقى لحجم «المعضلة الأمنية» القائمة بالإقليم. هذه المفاجأة إن تمت ــ رغم التأكيد مرة ثانية على أهميتها ــ تعكس معاملة جزئية ومختزلة لهذه المعضلة الأمنية. من ناحية، إن أى معالجة حقيقية لواقع الإقليم تتطلب رؤية ومقاربة سياسية للصراع الفلسطينى الإسرائيلى تنتهى بإقامة الدولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم فإن الهدنة أو إنفاذ المساعدات الإنسانية لقطاع غزة تظل قضايا فرعية، مرة ثالثة رغم أهميتها على المدى المنظور. من ناحية ثانية، لا يجوز التعامل مع مسألة غزة بمعزل عن القضية الفلسطينية، ولا يجوز التعامل معها أيضا على أنها فقط أزمة إنسانية. مصر تبذل جهودا ضخمة على مدار الساعة، من أجل الوصول إلى هدنة دائمة، لكن يظل هدفها الرئيسى هو بدء عملية سلام حقيقية تنتهى بإقامة الدولة الفلسطينية. هناك مسئولية كبيرة على الولايات المتحدة لبدء هذه العملية، وإجبار الجانب الإسرائيلى على ذلك. هذه المسئولية لا تفرضها فقط العلاقة التاريخية للولايات المتحدة بعمليات السلام المماثلة السابقة، أو بإدارة الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلي، لكن تفرضها أيضا مسئولية الولايات المتحدة كقوة عظمى مسئولة عن الأمن العالمي، وإدارة وتسوية الصراعات الرئيسية داخل النظام الدولي. لقد وضع الرئيس ترامب أزمتين مهمتين ضمن مسار تفاوضي، هما الحرب الروسية ــ الأوكرانية وأزمة البرنامج النووى الإيراني، القضية الفلسطينية تحتاج إلى تدشين هذا المسار بالتأكيد.
الملاحظة الثالثة، وترتبط بالملاحظة السابقة، ومفادها أن بناء أى رؤية بشأن المعضلة/ المعضلات الأمنية بالإقليم يجب أن تقوم على حوار جاد مع قوى الإقليم، وفى مقدمتها القوى الرئيسية المعنية بأمنه واستقراره وقضاياه المركزية، وفى مقدمتها مصر. أى مقاربة يتم بناؤها بمعزل أو بعيدا عن هذه القوى الرئيسية لن تقود إلى رؤية متكاملة قابلة للاستدامة تتعامل مع جوهر وحقيقة هذه المعضلة/ المعضلات الأمنية. لقد اضطلعت مصر بمسئولياتها السياسية والأمنية والأخلاقية تجاه الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلي، وراكمت خبرات ضخمة فى هذا المجال، تشهد عليها القوى الدولية والإقليمية، بل الأطراف المباشرون فى الصراع. هناك شواغل أمنية للقوى الرئيسية بالإقليم، وفى مقدمتها مصر، يجب تفهمها، سواء تعلق ذلك بارتدادات السياسات الإسرائيلية فى المنطقة، أو أمن البحر الأحمر وغيرها.
الملاحظة الرابعة، تتعلق بضرورة تصرف الولايات المتحدة مع المعضلات الأمنية بالإقليم باعتبارها قوة عظمى انطلاقا من المسئوليات السابق الإشارة إليها. هناك بعض المؤشرات المهمة حول بدء إدراك الولايات المتحدة هذه المسئوليات، أبرزها تدشين مفاوضات مع إيران وحماس دون مشاركة إسرائيل، ما يعنى اتجاه الولايات المتحدة إلى حرمان إسرائيل من ممارسة حق الفيتو على مثل هذه المسارات التفاوضية. لكن اكتمال هذا التوجه الأمريكى يتطلب إدراكا كاملا لخطورة السياسات الإسرائيلية على أمن الإقليم، وكيف أصبحت عبئا على الولايات المتحدة نفسها، وعلى المنظومة القيمية الغربية بشكل عام.
نتمنى أن تمثل الزيارة المرتقبة للرئيس ترامب نقطة تحول تاريخى فى سياسات ومسئوليات الولايات المتحدة تجاه الإقليم باعتبارها قوة عظمى، وانطلاقا من رؤية متكاملة لمعضلات الإقليم وليس انطلاقا من مصالح محددة، واستنادا إلى حوار وتفهم للشواغل الأمنية للقوى الرئيسية بالإقليم
------------------------------------------------
لا يجوز التعامل مع مسألة غزة بمعزل عن القضية الفلسطينية، ولا يجوز التعامل معها أيضا على أنها فقط أزمة إنسانية. مصر تبذل جهودا ضخمة على مدار الساعة، من أجل الوصول إلى هدنة دائمة، لكن يظل هدفها الرئيسى هو بدء عملية سلام حقيقية تنتهى بإقامة الدولة الفلسطينية
[email protected] لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات رابط دائم: