الأزمة الراهنة بين الهند وباكستان ليست هى الأولى، فهى حلقة جديدة فى سلسلة من الأزمات المتكررة بين البلدين خلال العقدين الأخيرين، كان أخطرها الأزمة الناتجة عن هجمات مومباى فى 26 نوفمبر 2008، التى نفذتها مجموعات من المسلحين ضد عدد من الأهداف، شملت فنادق فاخرة ومطاعم شهيرة ومستشفيات ومحطات قطارات، ممّا تسبّب فى مقتل حوالى مائتى شخص. والأخطر أن هذه الهجمات أدت إلى انهيار عملية تطبيع بين البلدين كانت قد بدأت فى عام 2004، وكادت أن تساهم فى تسوية سياسية تاريخية للصراع حول كشمير.

بالطبع لا يمكن القطع بأن الأزمة الحالية سوف تقود إلى حرب نظامية بين الطرفين، إذ تظل هناك مجموعة من الضوابط أو الكوابح المهمة ضد هذا السيناريو، أولها الخبرة التى طورها الطرفان لإدارة هذا النمط من الأزمات والذى اعتادا عليه خلال العقدين الماضيين كما سبق القول؛ إذ يركز كل طرف فى كل أزمة على اتخاذ الإجراءات والإجراءات المضادة التى تؤكد قدرته وحقه فى حماية سيادته وأمنه القومي، بالإضافة إلى ضمان إرضاء الرأى العام الداخلي. هناك عاملان آخران لا يقلان أهمية يكبحان سيناريو الحرب، أولهما امتلاك الطرفين للسلاح النووي، الأمر الذى يدفع كل منهما إلى ضبط سلوكه العسكرى وخضوع القرار العسكرى لحسابات دقيقة تضمن عدم الانزلاق إلى الحرب المفتوحة؛ فبينما شهدت مرحلة ما قبل امتلاك الطرفين السلاح النووى ثلاث حروب نظامية أساسية (1947، 1965، 1971)، لم تشهد مرحلة ما بعد امتلاكهما السلاح النووى إلا عددا من المواجهات والأزمات المحدودة، فى دلالة واضحة على وجود درجة ارتباط واضحة بين امتلاك طرفى الصراع السلاح النووى وغياب الحروب المباشرة.
ثانيهما، وجود اعتبارات داخلية على الجانبين تدفع الطرفين إلى عدم الانزلاق إلى هذه الحرب؛ فالهند لديها مشروع للصعود الاقتصادى يجعلها لا تميل إلى التورط فى حرب كبيرة، فضلا عن وجود طبقة وسطى متنامية لا تميل بالتأكيد إلى الانزلاق للحرب، وأصبحت أكثر ميلا للنظر إلى الصراع حول كشمير على أنه صراع سياسى أكثر منه صراعا دينيا. وتواجه باكستان بيئة داخلية معقدة، خاصة فى إقليم الحدود الشمالية الغربية والمناطق الحدودية مع أفغانستان، فضلا عن وجود مصلحة باكستانية فى الحفاظ على الاستقرار كشرط رئيسى لتنفيذ العديد من المشروعات الاستثمارية فى إطار مبادرة الحزام والطريق.
لكن مع أهمية كل هذه «الكوابح»، فإن هذه الأزمة تمثل اختبارا جديدا للنظام الدولى الراهن، سواء القوة المهيمنة على النظام حتى الآن، متمثلة فى الولايات المتحدة، أو القوى الصاعدة، متمثلة فى الصين بالأساس، أو المنظومة الأممية وعلى رأسها مجلس الأمن، أو حتى القوى الوسطى داخل النظام، سواء فى آسيا بشكل عام أو دول الجوار الجغرافى بشكل خاص. الاستقرار فى شبه القارة الهندية مسألة مهمة لجميع الأطراف. الحسابات العقلانية تقول إنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة نشوب مثل هذه الحرب، بالنظر إلى تكاليفها الضخمة، لاعتبارات تتعلق بعلاقاتها الاستراتيجية مع الهند، والدور الذى تلعبه الأخيرة فى إطار التوازنات الجارى بناؤها مع الصين فى منطقة الإندو ــ باسيفيك، فضلا عن التداعيات الأمنية والجيوسياسية لهذه الحرب على جنوب ووسط آسيا بشكل عام، وخريطة الإرهاب فى المنطقة. الأمر نفسه بالنسبة للصين، إذ من شأن اندلاع حرب جديدة بين الهند وباكستان التأثير على الأخيرة التى تحتل موقعا خاصا ضمن مسارات الحزام والطريق (ممر الصين ــ باكستان)، بالإضافة إلى تأثير الحرب المؤكد على باقى الممرات فى أوراسيا. بمعنى آخر، ان قطع الطريق على هذه الحرب يمثل مصلحة مؤكدة لجميع الأطراف وفقا للحسابات العقلانية. لكن هذا لا يعنى أن هذه الحسابات هى السائدة دائما؛ إذ لا يمكن بالطبع استبعاد وجود سيناريو أمريكى ما لجر البلدين إلى حالة من المواجهات المحسوبة يكون أحد أهدافها الأساسية خلق حالة من عدم الاستقرار فى منطقة أوراسيا، إذ من شأن ذلك التأثير على مصالح منافسين رئيسيين هما الصين وروسيا معا. لكن افتراض وجود هذا المخطط يفترض القدرة على ضبطه والتحكم فيه لمدى زمنى محدد، بمعنى ضمان بقاء هذا الصراع دون المستوى النووي، أو بقائه ضمن الصراعات منخفضة الحدة التى تقوم على استنزاف أحد أطرافه خلال مدى زمنى طويل نسبيا.
وبافتراض غلبة الحسابات العقلانية، وغلبة المصلحة المشتركة فى ضمان استقرار شبه القارة الهندية، فإن الأزمة تمثل اختبارا إضافيا للنظام الدولى الراهن، وتحديدا قدرته على نزع فتيل الأزمة. أحد مؤشرات قياس فعالية النظام الدولى هو قدرته على ضمان السلم والأمن الدوليين، وقدرته على وأد الصراعات وإدارة الأزمات حال اندلاعها، وقدرته كذلك على توفير الشروط اللازمة لتسوية الصراعات. مازالت هناك العديد من الصراعات الممتدة، التى يعود بعضها إلى ما قبل الحرب الأولى أو الثانية، منها الصراع العربى ــ الإسرائيلى والصراع حول كشمير، والصراع فى شبه الجزيرة الكورية، والنزاع فى بحر الصين الجنوبي، وبحر الصين الشرقي، وغيرها. المشكلة لا تنصرف هنا فقط إلى عدم قدرة النظام الدولى على وضع تسوية نهائية وتاريخية لهذه الصراعات والنزاعات، لكنها تنصرف أيضا إلى عدم القدرة على إدارة هذه الصراعات والحيلولة دون انفجارها بشكل أوسع، وفى بعض الأحيان إحياء هذه الصراعات بسبب سلوك القوى الدولية، أو توظيف هذه الصراعات لتحقيق أهداف محددة. لا شك أن هذا يرتبط بالمرحلة الانتقالية الراهنة فى النظام الدولى والصراع القائم على قمة النظام، وهى مرحلة غير دائمة، لكن الإشكال أنها قد تمتد لعقد أو أكثر، الأمر الذى يعنى تحميل السلم والأمن الدوليين تكاليف وأعباء ضخمة المجتمع الدولى والاقتصاد العالمى والاقتصادات الوطنية فى غنى عنها بالتأكيد، فضلا عن أنها قد لا تساهم بالضرورة فى حسم الصراع على مستقبل النظام الدولى وفقا لحسابات الأطراف الدولية المعنية. هناك محاولات لإنهاء الحرب الروسية ــ الأوكرانية، لكن هذا المنحى لا ينهض مؤشرا كافيا على فعالية النظام الدولى الراهن، الأمر الذى قد يضع المسئولية والمراهنة الأساسية خلال هذه المرحلة على القوى الوسطى داخل النظام العالمى.
------------------------------------------------------------
إن هذه الأزمة تمثل اختبارا جديدا للنظام الدولى الراهن، سواء القوة المهيمنة على النظام حتى الآن، متمثلة فى الولايات المتحدة، أو القوى الصاعدة، متمثلة فى الصين بالأساس، أو المنظومة الأممية متمثلة وعلى رأسها مجلس الأمن، أو حتى القوى الوسطى داخل النظام، سواء فى آسيا بشكل عام أو دول الجوار الجغرافى بشكل خاص
[email protected] لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات رابط دائم: