رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

مصر وأوروبا.. الشراكة المستقرة

شكلت مصر عبر تاريخها الحديث نقطة التقاء مصالح القوى الرئيسية فى النظام الدولي. أنتج هذه الحقيقة اعتبارات ومحددات عدة، أبرزها الاعتبارات الجيوسياسية المرتبطة بالموقع الجغرافي، وإدراك مصر، من خلال قياداتها السياسية ومؤسساتها الوطنية ونخبها السياسية والثقافية، لخصوصية الدولة المصرية فى علاقاتها مع العالم الخارجى، وهو ما انعكس فى العديد من السلوكيات والمفاهيم الرئيسية التى حكمت السياسة الخارجية المصرية، مثل رفض الالتحاق بالأحلاف الدولية والإقليمية، والتمسك بمفهوم التوازن فى سياساتها الخارجية، وتنويع الشراكات الإستراتيجية، وتنويع مصادر التسليح، وغيرها من المفاهيم والسياسات المهمة. وحتى عندما اتجهت مصر إلى بناء علاقات متميزة مع إحدى القوى الدولية خلال مرحلة النظام ثنائى القطبية والحرب الباردة، فإن هذه الفترة لم تدم طويلا وسرعان ما عادت مصر إلى حالة التوازن الطبيعى. هذه الخصوصية المصرية جاءت كنتيجة مهمة أيضا للخبرات المصرية المتراكمة عبر تاريخها الطويل، خاصة خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، والذى شهد موجات من الصراعات الدولية والتى انعكست على مصر وعلى إقليم الشرق الأوسط بشكل عام.


فى هذا السياق، نجحت مصر فى بناء العديد من العلاقات والشراكات الإستراتيجية مع كل القوى الدولية تقريبا، على اختلاف توجهاتها ومصالحها ومواقعها داخل النظام العالمي؛ الولايات المتحدة، روسيا، والاتحاد الأوروبى والقوى الأوروبية، والصين. وتنوعت هذه الشراكات لتغطى مجالات عدة. لكن من بين هذه الشراكات حظيت الشراكة المصرية الأوروبية بسمات خاصة ضمنت لها استقرارا رغم التحولات التى شهدتها القارة الأوروبية خلال العقد الأخير، سواء فيما يتعلق بصعود تيارات سياسية جديدة داخل العديد من القوى الأوروبية، أو تغير موازين القوى داخل البيت الأوروبى نفسه، أو تعرض بعض الاقتصادات الأوروبية لأزمات اقتصادية ومالية، فضلا عن التحولات الدولية المتسارعة. رغم كل هذه التحولات المتزامنة تقريبا، ظلت الشراكة/ الشراكات المصرية ــ الأوروبية مستقرة، لم تعانى من موجات الصعود والهبوط.

تعود سمة الاستقرار تلك إلى عدد من العوامل المهمة على الجانبين المصرى والأوروبى. أول تلك العوامل يتعلق بالجغرافيا؛ فعلى الرغم من انتماء الطرفين إلى أطر وبيئات ثقافية متمايزة، لكن تظل الجغرافيا عامل ربط مهما بين الجانبين، إذ لا يفصل بينهما سوى البحر الأبيض المتوسط، الذى لم يعد فى الحقيقة مساحة فصل بين الطرفين بقدر ما أصبح عامل ربط بينهما، فى ظل التطورات الجيو ــ سياسية والجيو ــ اقتصادية فى منطقة البحر المتوسط، فضلا عما باتت تمثله المسطحات المائية من أساس للتعاون وبناء المشروعات الضخمة عبر الأقاليمية؛ فقد تحول المحيط الهادى إلى أساس للربط بين الاقتصادات المشاطئة للمحيط من خلال منتدى آبك APEC، وتحول المحيط الهندى إلى أساس للتعاون بين الدول المشاطئة للمحيط من خلال «رابطة الدول المطلة على المحيط الهندى» IORA. هذا الجوار/ الرابط الجغرافى المصرى ــ الأوروبى أسس لخلق بيئة أمنية مشتركة، بما فى ذلك التعامل مع مجموعة من التهديدات غير التقليدية، خاصة الإرهاب، والهجرة غير النظامية، وتغير المناخ، الأمر الذى أسّس بدوره لتطوير برامج وسياسات مشتركة للتعامل مع هذه التهديدات. كما خلقت هذه التهديدات المشتركة مصلحة لدى القوى الأوروبية فى تعزيز العديد من البرامج الاقتصادية والتنموية داخل دول جنوب المتوسط، وفى مقدمتها مصر.

العامل الثانى، يتعلق بنجاح الطرفين فى صياغة وتطوير عدد من الأطر المؤسسية لتطوير التعاون بين الجانبين، كان أبرز محطاتها «التعاون الأورو ــ متوسطي» الذى انطلق مع مؤتمر برشلونة فى نوفمبر 1995، ثم «الاتحاد من أجل البحر المتوسط»، الذى انطلق مع قمة هانوفر فى نوفمبر 2008. وكانت المحطة الأهم فى هذا الإطار هى إنشاء آلية التعاون الثلاثى بين مصر وقبرص واليونان، التى انطلقت فى نوفمبر 2014، وعقدت قمتها العاشرة فى يناير الماضي. الأهم فى هذه الأطر أنها كانت مدفوعة بتعزيز حالة الاستقرار والازدهار المشترك، والتعاون المتكافئ والمصالح المشتركة، والأهم أنها اتسمت بدرجة كبيرة من قدرة أطرافها على التأقلم مع الواقع الدولي، ومع الواقع الاقتصادى والاجتماعى والثقافى لأطرافها، فضلا عن القدرة على بناء أطر فرعية للتعامل مع الواقع الاقتصادى والأمنى القائم فى أقاليم فرعية محددة، والمثال الأبرز هنا هو آلية التعاون الثلاثى بين مصر واليونان وقبرص، التى أستحدثت لتعزيز التعاون بشأن قضيتى الغاز والطاقة والتعامل مع التحديات الأمنية بإقليم شرق المتوسط الذى مثل نموذجا مهما لقدرة الفاعلين الثلاثة على استحداث إقليم يستند إلى مفهوم جديد فى بناء الأقاليم بالمعنى الجيو ــ سياسى والجيو ــ اقتصادى. وعلى الرغم من صدور بعض المواقف السلبية الأوروبية، الجماعية أو الفردية، بشأن بعض القضايا ذات الصلة بمصر، لكنها ظلت مواقف وقضايا هامشية، تم تجاوزها سريعا ولم تنل من الاتجاه العام للعلاقات المصرية ــ الأوروبية، كما أنها ارتبطت بتيارات محددة، دون أن تعبر المواقف والسياسات الأوروبية الرئيسية المستقرة.

وبالإضافة إلى هذين العاملين، فإن هذه الشراكة تكتسب أهمية خاصة فى المرحلة الراهنة فى تطور النظام العالمي، بالنظر إلى اعتبارات عدة، أبرزها ما تشهده هذه المرحلة من إعادة فرز للارتباطات الدولية، بما فى ذلك العلاقات الأوروبية ـــ الأمريكية، واتجاه القوى الأوروبية إلى إعادة تأكيد دورها داخل النظام العالمي، ومن ثم اتجاهها أيضا إلى تأكيد مصالحها الحيوية فى العديد من الأقاليم، بما فى ذلك فى جنوب المتوسط وفى الشرق الأوسط، الأمر الذى يخلق فرصا كبيرة لتعميق وإعادة بناء وتعريف العلاقات المصرية ــ الأوروبية استنادا إلى التحولات الجارية والمرتقبة فى النظام العالمي. وما يميز الحضور والثقل الأوروبى داخل النظام العالمى أن القوة الأوروبية هى الأكثر تعبيرا ــ إلى حد كبير ــ عن القيم الأساسية المستقرة فى النظام العالمى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وفى تقديري، ستكون القوى الأوروبية هى الأكثر تعبيرا والأكثر مصداقية فى الدفاع عن هذه القيم، وذلك على العكس من قوى غربية أخرى تتجه إلى إدخال تغييرات هيكلية وراديكالية على قيم ومؤسسات النظام العالمى إلى حد التهديد باستقرار الأخير.

خلاصة القول، إن العلاقات المصرية- الأوروبية مثلت نموذجا للشراكات الإستراتيجية المستقرة، القادرة على التطور والتأقلم، وتمتلك فرصا كبيرة لانتقال هذه العلاقات إلى مستويات نوعية، لا تخدم فقط العلاقات والمصالح المشتركة للطرفين، لكنها ستخدم أيضا النظام العالمى فى مرحلة شديدة الخطورة والتعقيد.

***

حظيت الشراكة المصرية الأوروبية بسمات خاصة ضمنت لها استقرارا رغم التحولات التى شهدتها القارة الأوروبية خلال العقد الأخير، سواء فيما يتعلق بصعود تيارات سياسية جديدة داخل العديد من القوى الأوروبية، أو تغير موازين القوى داخل البيت الأوروبى نفسه، أو تعرض بعض الاقتصادات الأوروبية لأزمات اقتصادية ومالية.

[email protected]
لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات

رابط دائم: