لم يكن التراجع التدريجى للرئيس الأمريكى ترامب فى الأيام الماضية، بشأن التخلى عن طرح تهجير وترحيل سكان غزة، وإعلانه انه لن يفرض خطته، بل سيوصى بها فقط، أمراً مثيراً أو مدهشاً بالنسبة لى، حيث لدى قناعة تلامس اليقين، بأن هذا الطرح هو والعدم سواء، لاستحالة وعدمية التنفيذ، باعتباره خارج سياق المنطق وشواهد التاريخ وربما خارج تصورات العقل ، وبقيت لأكثر من ثلاثة أسابيع أردد فى كل إطلالة تليفزيونية مصرية وعربية ودولية، وكتبت فى مقالى الأخير فى هذا المكان باستحالة القبول بهذا الطرح من السيد ترامب، وان مصير هذه الخطة مهما يكن صلف الطرح هو الفشل، وأن الأمور بخواتيمها حيث الرفض والتخلى عنها تدريجيا، بفعل ردات الفعل والغضب والاحتقان المصرى والعربى، الذى خلق حائط صد فولاذيا لا يمكن اجتيازه، أضف إلى ذلك الاصطفاف الدولى فى الحال، وكان مجمل قناعتى تلك هو السيناريو الذى أفضى به لى السيد أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية منذ اللحظة الأولى لطرح ترامب، عندما فاجأنى بأن هذا الأمر لن يحدث على الإطلاق، وفى المجمل هو محاولة ابتزاز وضغط، شارحا ان الأمر لايعدو كونه مناورة من قبل ساكن البيت الأبيض للمساومة والمقايضة مع العرب فى سنوات حكمه الأربع، والحصول على مكاسب سياسية لتل أبيب وتشكيل شبكة إنقاذ وطوق نجاة لشخص نيتانياهو، للإبقاء على حكومته فى الداخل الإسرائيلى، وعدم ذهابه للسجن والملاحقات القضائية، بسب جرائم الفساد، فى مقابل ضغط مضاعف يمارس على العرب بالسير قدما للتطبيع من بقية العواصم العربية مع إسرائيل، والتخلى عن مشروع الدولة الفلسطينية على الأقل خلال ولايته، ناهيك عن السبب الأكبر له بالحصول على امتيازات مالية خليجية بالاستثمار فى أمريكا، ومشروعات عملاقة ضخمة بأرقام فلكية، مقابل سحبه تلك الخطة بعد التأكد من الحصول على كل تلك الأهداف مجتمعة، وفى التوقيتات التى يحددها، ويومها اقتنعت بهذا الطرح من دبلوماسى وسياسى مخضرم خدم فى أروقة الدبلوماسية المصرية ستين عاما. دون مبالغة وبشكل صريح جدا أقول، إن صلابة الموقف المصرى والعربى وجه صفعة قوية لحكومة نيتانياهو خاصة عتاة اليمينيين، باعتبارهم أصحاب الحق الأول لمشروع تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، حيث لم يكن ترامب هو صاحب هذا الطرح حصريا، خاصة إذا علمنا حسب تأكيدات الاعلام الأمريكى والعبرى، بأن فريقا إسرائيليا بقيادة رون دريمر وزير الشئون الإستراتيجية فى حكومة نيتانياهو وعقل الأخير، هو من ذهب للقاء ترامب فى منتجعه قبل تنصيبه بأربعة أسابيع، وقدم له هذا المشروع كاملا بكل تصوراته وأبعاده، بدعم من اللوبى اليهودى الذى ساند ترامب فى الانتخابات الأخيرة بالدعم المالى والحاضنة السياسية والغطاء الجماهيرى، ثم زار نيتانياهو بعد تنصيب ترامب واشنطن كأول زعيم دولى للتهنئة، فتمت بلورة المشروع نهائيا، واعترف الرجل بعد ان عاد إلى تل أبيب بانه كان على علم كامل بتفاصيل طرح ترامب قبل إعلانه، وانه اتفق معه على الخطط والمراحل، لإنجاح مشروعه لتغيير وجه الشرق الأوسط، باعتبار التهجير هو ثانى مراحل المشروع بعد الحرب فى غزة وجنوب لبنان وسوريا، وقتل قيادات محور المقاومة والممانعة فى حماس وحزب الله وإنهاء حكم بشار، وبالتالى رهان نيتانياهو على فوز ترامب بولاية ثانية كان تحت المجهر والمنظار المصرى أولا، والدوّل الفاعلة فى الإقليم السعودية والإمارات وقطر والأردن، ولا أبالغ إذا قلت إن كانت هناك طروحات مصرية قيد التداول داخليا للتعامل مع هذه السيناريوهات منذ العام الأخير من عهد بايدن، والاحتمالات المرتقبة لوصول ترامب بشقيها الإيجابى والسيئ، ويدلل على ذلك، ديناميكية الحراك المصرى للتعامل مع طرح ترامب منذ اللحظة الأولى، وتهديدات نيتانياهو عبر رسائل علنية وغامضة، وسعيه لفرض الطرح على مصر والأردن والمحيط العربى كأمر واقع، فكان الرد المصرى عبر رسائل خطية بعد يومين فقط من هذا الترويج الأمريكى والإسرائيلى، لكل من الإدارة الأمريكية ووزارتى الدفاع (البنتاجون) والخارجية وقيادات الكونجرس الجمهوريين والديمقراطيين، وكذلك حكومة نيتانياهو، برد الصاع والوعيد وكان العنوان الرئيسى لتلك الرسائل.. احترسوا وتدبروا من ردة الفعل المصرية، والتحذير من خطر غياب الأمن والاستقرار الإقليمى، وبالتالى تبقى القاهرة فى حل من أى ارتباطات لأجل حماية أمنها القومى، ويومها حسب مصدر موثوق لى ان القاهرة تلقت رسائل من واشنطن وتل أبيب مضمونها أنهما حريصان عَلِى الحفاظ على صلب وجوهر العلاقات مع مصر. وإمعانا فى صلابة الموقف المصرى، بدا الحراك الموسع عبر القنوات الرئاسية، مع العواصم العربية، لخلق واقع عربى جديد، وتشكيل حائط صد فولاذى ضد الطرح الأمريكى، ناهيك عن جهد مصرى إضافى لوأد خطط نيتانياهو الرامية للعبث بأسس ومرتكزات الاستقرار للأمن القومى العربى والشرق الأوسط عامة، ورفض أى تغييرات عبثية لصالح المشروع الإسرائيلى، ومن هنا بعد اطمأنت القاهرة لصلابة الموقف العربى، وبدأت التخطيط بالدعوة إلى قمة عربية طارئة، وكان جوهر اختيار الموعد الخاص للقمة المرحّل عدة أسابيع، لأهداف مصرية ذكية بإعطاء بعض الوقت للجانب الأمريكى للدراسة والاطلاع على تقارير رفض مقترح التهجير من الإقليم العربى ودوّل العالم قاطبة وتقييم المخاطر، ناهيك عن استغلال القاهرة كل هذا الوقت لإعداد مشروع مصرى شامل، بشأن إنهاء مراحل الهدن الثلاث وإنهاء العدوان الإسرائيلى نهائيا فى غزة، وكذلك صيغة اليوم التالى فى القطاع، علاوة على المشروع المفاجأة المضاد لطرح ترامب بشأن إعمار غزة بمراحله الزمنية وخططه وتكلفته وجهات التمويل، بشرط بقاء الفلسطينى بأرضه فى غزة، مع طرح مصرى داخل مشروع الإعمار، بشأن خطط التسوية النهائية للصراع الفلسطينى - الإسرائيلى، وإقامة الدولة الفلسطينية ومراحل وتوقيت إنشائه، وهذا ما سيكون إحدى مفاجآت الجانب المصرى فى القمة العربية القادمة فى العاصمة الإدارية الجديدة.
لمزيد من مقالات أشرف العشرى رابط دائم: