على العكس من الاتجاه الذى أخذته معظم التفاعلات الأمريكية مع النظام العالمي التى غلب عليها الطابع الصراعي، سواء فى العلاقة مع الفاعلين الرئيسيين، بمن فى ذلك بعض الحلفاء، أو فى العلاقة مع بعض المؤسسات الدولية، فقد أخذت العلاقات الأمريكية ــ الروسية خلال الأسابيع الأخيرة اتجاها مغايرا طرح إمكانية حدوث توافق نوعى بين البلدين بشأن مسار الحرب الروسية ــ الأوكرانية. الاتجاه إلى تسوية الصراعات القائمة هو توجه إيجابى بالتأكيد، خاصة عندما تقع هذه الصراعات فى قلب النظام العالمى وبين قوى رئيسية داخل النظام،بالنظر إلى الارتدادات الاقتصادية والأمنية الضخمة لتلك الصراعات على العدد الأكبر من الفاعلين الدوليين، وهو ما ينطبق على الحرب الروسية ــ الأوكرانية التى تركت آثارها خلال الأعوام الثلاثة الماضية على الاقتصاد العالمى، وعلى المبادئ الرئيسية الحاكمة للنظام العالمي، بل على مؤسسات هذا النظام وفى مقدمتها الأمم المتحدة ومجلس الأمن.

هذا التوجه الإيجابى فى العلاقات الأمريكية ــ الروسية يثير تساؤلا مهما حول ما إذا كنا إزاء مرحلة من «الوفاق» بين البلدين، وهى ظاهرة ليست جديدة فى العلاقات الدولية؛ إذ حدث مثل هذا «الوفاق» إبان الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى خلال السنوات الأخيرة من إدارة الرئيس الأمريكى جونسون، تحولت إلى سياسة مستقرة مع وصول إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون فى عام 1969. وبالتوازى مع ذلك بدأت أيضا سياسة «وفاق» مع الصين بعد عقود من الصراع والقطيعة بين البلدين. دخول القوى الرئيسية داخل النظام العالمى فى حالة «وفاق» أو «تفاهم» حول القضايا الإستراتيجية لا يعنى بالضرورة انتهاء التنافس الإستراتيجى القائم بينها، لكنه يعطى فرصة كبيرة لقطع الطريق على حدوث تدهور فى علاقاتها أو الدخول فى مواجهات عسكرية واسعة، ما يمثل فرصة لإدارة التنافس والصراع.
إذا افترضنا أن العلاقات الأمريكية ــ الروسية إزاء حالة من الوفاق أو التفاهم حول الحرب الروسية ــ الأوكرانية، فإن هذا «الوفاق» يتطلب مجموعة من الشروط حتى تمتد تأثيراته الإيجابية داخل النظام العالمي.
أهم هذه الشروط يتعلق بضرورةانتشار هذا التوجه فى اتجاهين رئيسيين، أولهما ما يمكن أن نصفه بالانتشار الجغرافي، بمعنى ألا يقتصر هذا «الوفاق» على العلاقات الأمريكية ــ الروسية؛ فمن الضرورى أن يمتد إلى باقى الأقاليم الأخرى، خاصة منطقة الإندو باسيفيك، بحيث يشمل الصين أيضا. أحد التفسيرات المطروحة لاحتمالات «الوفاق» الأمريكى الروسى هو اتجاه الولايات المتحدة إلى التهدئة مع روسيا أو عقد صفقة أمريكية معها بهدف التفرغ لإدارة الصراع مع الصين، أولإنهاء حالة التوافق/ الشراكة الإستراتيجية الروسية ــ الصينية، وقطع الطريق على عملية تشكيل محور دولى بقيادة روسيا والصين. يجب أن يشمل ذلك «الوفاق» أيضا إقليم الشرق الأوسط الذى يمر بمفترق طرق خطير يمكن أن يكون له ارتداداته على الأمن العالمي. كما أن إهمال الصراع الرئيسى فى الإقليم المتمثل فى الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلي،أو إنهاء هذا الصراع بالقوة الأحادية دونما اعتبار لحقوق تاريخية أصيلة ومستقرة للشعب الفلسطينى بموجب قرارات دولية، سيعمق القناعة بازدواجية المعايير الدولية، فضلا عن أن هذه «القوة» لن تُنهى هذا الصراع، ولن تضع له نقطة نهاية مستدامة لاعتبارات عديدة. فإذا افترضنا أن «الوفاق» الأمريكى الروسى يمكن أن يمتد ليشمل قضايا الشرق الأوسط، بما فيها الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلي، فإن هذا «الوفاق» يجب أن يقوم على تسوية عادلة لهذا الصراع تضمن مصالح جميع الأطراف وفى مقدمتهم الشعب الفلسطينى.
الاتجاه الثاني يتعلق بما يمكن وصفه بالاتجاه الموضوعي، بمعنى ألا يقتصر هذا الوفاق على العلاقات الأمريكية مع القوى الرئيسية: روسيا والصين، لكن لابد أن يشمل أيضا القضايا الرئيسية موضوع الخلاف داخل النظام العالمي، بدءا من المبادئ الرئيسية الحاكمة للنظام التى مثلت شروطا أساسية لاستقراره، وعلى رأسها احترام السيادة، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية، واحترام الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة... إلخ. أضف إلى ذلك ضرورة امتداد هذا «الوفاق» إلى عدد من القضايا التى صعدت على السطح خلال العقد الأخير، وعلى رأسها سباقات التسلح ومراجعة العقائد العسكرية، خاصة فى مجال القدرات الصاروخية، والاتجاه المتسارع إلى تعميق الأحلاف العسكرية القائمة، واستحداث تحالفات أمنية ودفاعية عدة، ومد مسارح عمل بعض التحالفات (التحالف الأمريكى الياباني، حلف الناتو). تجدر الإشارة هنا إلى أن «الوفاق» الذى شهده النظام العالمى خلال فترة الحرب الباردة شمل تطبيق عدد من الإجراءات، وتوقيع عدد من الاتفاقيات المهمة، خاصة تلك التى نظمت سباق التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
ليس من المتوقع أن يكون «الوفاق» الأمريكى ــ الروسى المرتقب جزءا أو امتدادا لعقيدة جديدة لدى الإدارة الأمريكية بتغيير الاتجاهات السائدة داخل النظام العالمى فى المرحلة الراهنة؛ ففى الأغلب أن هذا التوجه المحدد نحو روسيا هو توجه جزئى تكتيكى يتعلق بإدارة صراعات أخرى داخل النظام العالمى. لكن هذا لا ينفى حاجة المجتمع الدولى إلى أن يأخذ هذا «الوفاق» طابعا هيكليا، انطلاقا من عدد من الافتراضات أولها ــ أن هذا «الوفاق» ينطوى على مصالح لجميع الأطراف،ذلك أن دخول النظام العالمى فى مرحلة من الصدامات أو الاستقطابات الواسعة سيكون له تأثيراته على الجميع، وقد تصل إلى نقطة يصعب عندها التراجع أو منع وقوع سيناريوهات شديدة الخطورة، وسيكون من الصعب على المجتمع الدولى الخروج من آثارها مدة طويلة. ثانيها، أنه مازالت هناك فرصة كبيرة لبناء هذه التوافقات بما يحافظ على مصالح جميع القوى الدولية، استنادا إلى المساحات والمصالح المشتركة الواسعة التى تشكلت بين الجميع، خاصة فى مجالات التجارة والاستثمار والأسواق، والاقتصاد السياسى بشكل عام، بفعل اعتماد النمو الاقتصادى والتنمية على استقرار العولمة وآليات السوق وحرية تدفق التجارة والاستثمار ورءوس الأموال، فضلا عن عدم وصول الصراع وسباق التسلح حتى الآن إلى مستويات ما قبل الصدام العسكرى الحتمي.
بناء هذا «الوفاق العالمي» يحتاج بالتأكيد إلى قيادات قوية لديها القدرة على اتخاذ قرارات براجماتية تأخذ التفاعلات الدولية فى اتجاهات مغايرة للصراع. قد يكون هذا الاحتمال ضعيفا لكنه غير مستحيل بالتأكيد. عام 2025 سيكون عاما مفصليا لاختبار هذا التوجه.
...........................
دخول القوى الرئيسية داخل النظام العالمى فى حالة «وفاق» أو «تفاهم» حول القضايا الإستراتيجية لا يعنى بالضرورة انتهاء التنافس الإستراتيجى القائم بينها، لكنه يعطى فرصة كبيرة لقطع الطريق على حدوث تدهور فى علاقاتها أو الدخول فى مواجهات عسكرية واسعة، ما يمثل فرصة لإدارة التنافس والصراع.
[email protected] لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات رابط دائم: