لا يمكن إنكار أن مفهوم الأمن القومى العربى قد شهد الكثير من التجاذبات الفكرية والنظرية خلال العقود الأخيرة، لأسباب عدة تعلق بعضها بالتحولات العميقة التى شهدها إقليم الشرق الأوسط، والتحولات التى شهدتها العلاقات العربية مع القوى الإقليمية غير العربية، فضلا عن التغيرات التى شهدتها علاقات القوى الكبرى بالإقليم، أضف إلى ذلك التغيرات التى شهدتها طبيعة التيارات الفكرية، والتحولات الجيلية داخل المجتمعات العربية، فضلا عن التحولات الداخلية التى شهدتها بعض الدول العربية والتى أسست لأنماط مختلفة من التدخل الخارجى فى إدارة العمليات السياسية الداخلية لهذه الدول.
من ناحية، قامت العلاقات العربية مع القوى الدولية خلال مرحلة الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة، على افتراض أن هذا النظام يمكن أن يضمن استقرار وأمن الإقليم، استنادا إلى غياب الاستقطاب الدولى، ومن ثم غياب أنماط الحروب بالوكالة، لكن من الناحية العملية ارتبط هذا النظام بتراجع كبير فى استقرار وأمن الإقليم، نتيجة التوسع فى سياسة التدخل العسكرى فى المنطقة، سواء تحت دعاوى الحرب على الإرهاب أو نشر الديمقراطية، وهى السياسة التى أدت فى التحليل الأخير إلى تعميق الأزمات الداخلية داخل بعض الدول العربية بسبب إحياء الطائفية، كما أدت إلى تعميق الخلل فى التوازنات العربية ــ الإقليمية بسبب غياب جيوش عربية من المعادلة الأمنية الإقليمية، كما لم تنجح سياسات الحرب على الإرهاب فى القضاء الكامل على التنظيمات الإرهابية. وبالإضافة إلى رفع التكاليف السياسية والأمنية لعلاقة التحالف مع الولايات المتحدة، فقد اتجهت الأخيرة أيضا إلى رفع التكاليف المالية لهذا التحالف. وتضاعفت الآثار السلبية لعلاقات القوى الكبرى مع الإقليم على الأمن القومى العربى على خلفية ما عُرف بموجة «الربيع العربى» التى خلقت بيئة داخلية سياسية وأمنية هشة داخل عدد من الدول العربية، أسست لموجة من التدخل السياسى والعسكرى الخارجى فى الإقليم، لم تسهم فقط فى تعميق أزمة العمليات السياسية الداخلية، لكنها لم تنجح حتى فى حماية الأنظمة القائمة التى انهار بعضها بشكل لافت رغم استمرار علاقات التعاون العسكرى مع الحليف الخارجى.
من ناحية ثانية، فقد نجحت القوى الإقليمية غير العربية خلال العقد ونصف الأخير فى تطوير أنماط من التدخل فى الشئون الداخلية لعدد من الدول العربية، ساعدها فى ذلك ما ارتبط بموجة الربيع العربى من تحولات سياسية داخلية كان عنوانها الرئيسى صعود الطائفية والإثنية كأساسين لتوزيع الموارد السياسية والاقتصادية والثقافية، فى ظل خلل كبير فى العلاقة بين الدولة والمجتمع، عمقه انهيار أو تراجع فى الجيوش الوطنية النظامية. هذا التدخل تجاوز التدخل السياسى والثقافى ليأخذ أنماطا عسكرية فى العديد من الحالات. ورغم ما شهدته العلاقات العربية مع بعض هذه القوى الإقليمية من ترميم أو مراجعة خلال السنوات الأخيرة، فإن هذا المسار لم يرتبط به مراجعة شاملة لسياسات هذه القوى تجاه محيطها العربى، كما لم يرتبط به تغيرات جوهرية فى البيئة الداخلية للدول العربية المستهدفة، الأمر الذى أسس لاستمرار سياسات هذه القوى ما لم تحدث مراجعات حقيقية من جانبها. وفى تطور أكثر سلبية، اتجهت دولة الاحتلال الإسرائيلى، بدعم أمريكى وغربى، إلى محاولة فرض حالة من الهيمنة على الإقليم، من خلال محاولة تغيير موازين القوة الإقليمية وتغيير الخرائط السياسية.
سياسات القوى الدولية والإقليمية تلك لم تكن لتأخذ هذه الاتجاهات والتوجهات دون وجود شروط داخلية عربية مواتية.
خلاصة القول، إن تقييما موضوعيا لحالة العلاقات العربية مع النظام العالمى خلال مرحلة الأحادية القطبية، منذ تفكك الاتحاد السوفيتى حتى الآن، وحالة العلاقات العربية مع القوى الإقليمية خلال العقد ونصف العقد الأخير، تحتاج إلى تقييم دقيق لحجم المكاسب والتكاليف؛ السياسية والاقتصادية والأمنية التى حققتها القوى العربية، بهدف تصحيح هذه العلاقات، من ناحية، وتصحيح الشروط والسياقات التى عززت تكبد هذه التكاليف، من ناحية أخرى، تجدر الإشارة هنا إلى عدد من الحقائق التى يجب أن تستند إليها هذه المراجعات والتصحيح المطلوب.
أولاها: ضرورة إجراء تقييم موضوعى لخبرة العلاقات العربية مع القوى الإقليمية والدولية، وحجم المكاسب التى حققتها القوى العربية على مدار العقود الأربعة الأخيرة فى علاقاتها مع هذه القوى فى ظل النظام الدولى الأحادى القطبية، والتكاليف التى دفعتها مقابل هذه المكاسب. ومن الضرورى أن يكون هذا التقييم متكاملا يأخذ فى الاعتبار المستويات الأمنية، جنبا إلى جنب مع المستويات الاقتصادية، والأوزان النسبية الحقيقية لكل مستوى من هذه المستويات. دون أن يعنى ذلك الانطلاق من افتراض التوجه نحو سياسات عدائية تجاه أى من القوى الدولية أو الإقليمية، بقدر استنادها إلى علاقات مصالح حقيقية تراعى مصالح جميع الأطراف، وعلى رأسها الأمن القومى العربى وأمن القوى العربية.
ثانيتها: أن نمط علاقات القوى الكبرى بأى من الأقاليم فى العالم لا تحدده فقط سياسات وأهداف ومصالح هذه القوى، لكن تحدده أيضا سياسات ومصالح قوى الإقليم، والكثير من الأقاليم نجحت فى ضبط هذه العلاقات على نحو ضمن تعزيز الأمن الإقليمي. ويعتمد ذلك بالتأكيد على عوامل عدة، أهمها حالة التوافق الإقليمى، وقدرة القوى الإقليمية على وضع حدود فاصلة بين السياسات الإقليمية والنظام العالمي. ويعنى ذلك ضرورة بناء توافق عربى حول المصالح العربية العليا، والأوزان النسبية لهذه المصالح فى علاقات القوى العربية مع الأطراف الدولية والإقليمية.
ثالثتها: أن القوى العربية امتلكت، لازالت تمتلك العديد من الأوراق المهمة فى حماية الأمن القومى العربى، وتوظيف هذه الأوراق فى مواجهة القوى الدولية والإقليمية، لكن الأمر يحتاج بالتأكيد إلى درجة كافية من التنسيق العربي، ووضع الأولويات اللازمة فى هذا الشأن.
أخيرا: أن خبرة العقود الأربعة الماضية كشفت بشكل كاف أنه لا يمكن التعامل مع الأمن القومى العربى بشكل اجتزائى، فما يصيب الأمن القومى لإحدى الدول العربية من اهتزاز أو عطب يترك تأثيره على الأمن القومى العربى، حتى وإن لم يحدث ذلك على المدى القصير.
هناك بوادر ومؤشرات مهمة على تطور وعى عربى بهذه المراجعات وعمليات التصحيح الضرورية، لكنها تحتاج بالتأكيد إلى حزمة من الخطوات والسياسات العربية العملية تنتصر فى التحليل الأخير لمفهوم الأمن القومى العربى.
***
إن تقييما موضوعيا لحالة العلاقات العربية مع النظام العالمى خلال مرحلة الأحادية القطبية، منذ تفكك الاتحاد السوفيتى حتى الآن، وحالة العلاقات العربية مع القوى الإقليمية خلال العقد ونصف العقد الأخير، تحتاج إلى تقييم دقيق لحجم المكاسب والتكاليف؛ السياسية والاقتصادية والأمنية.
[email protected] لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات رابط دائم: