بداية ألفت النظر إلى أننى أتحدث عن وجدان المصريين الذى تكون بتراكم حضارات الدنيا بعد حضارته العظيمة الأولى منذ ما لا يحصى من عشرات الآلاف من السنين ... إنه الوجدان الذى لا يستقر ويسكن فيه إلا كل ما هو حضارى ورائع وجميل، وعميق ولا يمنع هذا من قشور تمر به وحوله وسرعان ما تختفى كما جاءت ... وكان إبداع أم كلثوم صوتا وغناء وحضورا وتأثيرا وعشقا لوطنها من أروع ساكنى هذا الوجدان بل ومن مكوناته ومن مكونات قواه الثقافية الناعمة التى توحدت حولها الأمة التى أظهرت الأيام والأحداث العاصفة والمتتالية استعصاءها على توحيد مواقفها، ومن أهم ما حققه عملى فى رحاب الصحافة قدرة الاقتراب منها، ومنذ كنت بحجم عقلة الإصبع فى بداياتى المبكرة عندما سعيت لإجراء حوار معها رغم ما حذرت منه من أنها لا تقبل الحوار إلا مع القامات الصحفية الكبيرة، ولا أعرف كيف اهتديت الى رقمها الخاص وكيف وبالمصادفة البحتة كانت إلى جانب هاتفها الأرضى الذى لم يكن هناك غيره من أدوات الاتصال الحديثة، وكيف جاءنى صوتها الذى كنت أحفظه من أحاديث قليلة كانت تدلى بها فى الإذاعة وما أن سمعت صوتها حتى تدفقت كلماتى من عمق الفرحة والصدق والعشق لما قرأت عن رحلة المعاناة وتحديات البدايات وصلابة الإرادة لتصعد بما وهبها الله من صوت قادر عن التعبير عن أروع مشاعر الحب والعشق والوطنية، وشخصية مثقفة بالفطرة التى فطرت عليها الشخصية المصرية، وأضافت إليها كل ما استطاعت اكتسابه من ثقافة، ومعجونة بظرف سرعة بديهة المصريين وخفة ظلهم... ولا أعرف ماذا قلت لها من بين كل ذلك خلال إنصاتها وعدم قطع تدفق كلماتى وثقتى الكاملة فى موافقتها رغم أننى مازلت أخطو خطواتى الأولى فى رحاب صاحبة الجلالة، وأعطتنى موافقتها طالبة منى أن أقرأ عليها ما سأكتبه، وكانت المرة الأولى والأخيرة التى أفعلها فيها فقد ظلت أمانة ومصداقية الكلمة حاكما لى فى كل ما كتبت ومازلت بفضل الله أكتب إيمانا بأن الكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء.
◙ ومازلت أذكر كيف كنت أملأ هوامش كتبى فى أثناء المذاكرة برسمين محددين أحدهما لمركب يفرد شراعه فى النيل، والرسم الثانى لفلاحة مصرية ممشوقة القوام، وكيف كانت مشكلتى فى البحث عن الوجه المصرى النبيل الريان بماء النيل وخصوبة طميه، وأننى عندما قابلت مبدعة الغناء وجدت ملامح الوجه المصرى الأصيل الذى طال بحثى عنه، وأذكر أنها أصغت السمع عبر الهاتف لكل ما كتبت دون مقاطعة واحدة، ولا أنسى الثناء الجميل الذى سمعته منها بعد انتهاء قراءتى وبما معناه أنها تتوقع لى أن أحقق نجاحا كبيرا فى الصحافة وأرجو ألا تكون قد خابت نبوءتها المبكرة عنى!!
وتوالت لقاءاتى بها أثناء أكثر من دعوة للمشاركة فى الوفود الصحفية التى كانت ترافقها فى رحلاتها ،خاصة عندما جندت فنها ووهبت أرصدت غنائها للمجهود الحربى بعد الوقائع المؤسفة التى تعرضت لها قواتنا المسلحة 1967 ، وما خاضته بعدها من حرب استنزاف للإعداد لنصرنا العظيم على العدو الصهيونى1973 ، وأثناء الإعداد لها صدمنا بالرحيل المفاجئ للرئيس جمال عبدالناصر وكنا فى موسكو وكانت مازالت عاصمة للاتحاد السوفيتى قبل نجاح العملاء فيه والمخططات الأمريكية والغربية فى إسقاطه للانفراد بالنفوذ والسيطرة والتحكم فى العالم، ومازلت أذكر أننا ليلة إعلان الخبر الحزين كنا مع سيدة الغناء تلبى دعوة عشاء فى بيت السفير المصرى، وقبل إحيائها للحفل الذى كانت ستحييه على اكبر مسارح موسكو وقيل ليلتها إن إذاعة القاهرة قطعت إرسالها وتذيع بشكل متواصل آيات من الذكر الحكيم والتى أعقبة الخبر الحزين الذى كان صدمة للجميع ووضع نهاية للزيارة وعودة سريعة للقاهرة للمشاركة فى الوداع الأخير للزعيم فى جنازته المهيبة والتى بدت وكأن مصر كلها شاركت فيها.
لقد كانت فى كل بلد تدعى للغناء فيه تدرك أنها سفيرة فوق العادة لبلادها، ويسعى المصريون للقاء بها بل تشارك أحيانا فى حل مشكلاتهم هناك خاصة أنها كانت تستقبل استقبال القادة والرؤساء، وكانت تستمد شموخ وكبرياء أدائها حتى فى أكثر أغانيها العاطفية التى تمتلئ بالشجن والمعاناة من إيمان بقيمة وشموخ قيمة الفن كرسالة تحيى وتمتع ولا تتهافت أو تسف خاصة فى ذروة ما وصلت إليه من تقدير ومكانة جعلتها تسكن وتوحد القلوب والوجدان وتفعل ما لم تستطع أن تفعله علاقات سياسيه أو مصالح اقتصاديه وتتجاوز بشدوها العالمين العربى والإسلامى الى آفاق الدنيا، ويختار صوتها كصوت من أعظم الأصوات فى القرن العشرين.
◙ ومازال فى قصتى مع ساكنة القلوب والوجدان تفاصيل أخرى تؤكد وتضيف لمعان ما عشته ولمسته فى جميع ما أتيح لى من لقاءات معها وما سبق من أحداث ووقائع مهمة منذ بدأت الغناء صبية صغيرة فى قريتها طماى مع أبيها وأخيها الى أن جاءت الى القاهرة 1926 الى ما هيأه الله لها من الصعود الى ذرا المجد والخلود والانضمام الى الأهرامات وأبوالهول ومعابد ومسلات أجدادنا العظماء فى تكوين وتشكيل وجدان المصريين.
◙ كتبت مقالى عن سيدة الغناء قبل أن يسفر ترامب عن بقية المخطط الصهيو أمريكى لاحتلال غزة وإخلائها تماما من أبنائها، وأضيف هذه السطور لأقول مع الملايين التى قالت له، «لا» وألف لا لجميع المخططات الاستعمارية التى يريد بها الرئيس الأمريكى إنهاء القضية الفلسطينية وتمكين الصهاينة من تحقيق إسرائيل الكبرى التى تحكم الشرق الأوسط وأعيد النداء إلى وقفة موحدة لأمتنا تفعل فيها ما لديها من قوى ومقومات قادرة على إسقاط مخططاتهم وأطماعهم واستكمال جرائم التطهير العرقى وهى من جرائم الحرب.
لمزيد من مقالات سكينة فؤاد رابط دائم: