لم تستخدم إمبراطورية أو دولة عبر التاريخ كله مثلما استخدمت إسرائيل الدعايات والشائعات كأدوات أساسية فى صراعها مع العرب منذ عام 1948, سواء خلال نشأتها الأولى وفى كل خطوة تالية خطتها بعد ذلك. هى الحالة الوحيدة التى تستخدم فيها الدعاية والشائعة كإستراتيجية أساسية يساعدها فى ذلك الغرب كله بالمعلومات الاستخبارية والمادية فى نفس الوقت. هذا بالإضافة الى الممكنات والدعم الأخرى من المنظمات الصهيونية التى تتحكم فى انتخابات السياسيين وصناع القرار بداخل القوى العظمى مثل منظمة إيباك وغيرها بالولايات المتحدة. كل ذلك هو الذى أوصل إسرائيل لهذه المكانة المتجبرة والتى يمكن تلخيصها فى أنها نجحت كثيرا بتفوق فى تحقيق أهدافها العسكرية والسياسية والإعلامية منذ نشأتها حتى زمننا هذا نتيجة تلك العوامل. خلال عام 1948 وما قبلها استخدمت الصهيونية العالمية شائعة «الأرض بلا شعب لشعب بلا أرض», لتبرير توطينها فى فلسطين مصورة فلسطين كأرض مهجورة رغم وجود الفلسطينيين بها, إضافة إلى زعمها أن الفلسطينيين باعوا أرضهم وغادروا قراهم بمحض إرادتهم، متجاهلة عملية التهجير القسرى التى كانت ترتكبها والثابتة تاريخيا, وهو الأمر الذى صدقته الشعوب الغربية, وحتى كثير من العامة والخاصة العرب صدقوه. كانت الحال مثلما تحاول إسرائيل الآن بشمال غزة إخلاءها بالكامل سواء بقتلهم أو إجبارهم على الرحيل لتدعى نفس الادعاء بأنها أرض بلا شعب وتستوطنها كما فعلت من قبل. تأتى بعد ذلك الشائعة الأخطر وهى أن جيشها لا يقهر لتخويف الأمة العربية بالكامل من خلال تلك الأسطورة التى كسرها الجيش المصرى فى حرب أكتوبر عام 1973. فى العدوان الثلاثى عام 1956, كانت هناك الشائعة الإسرائيلية أن مشاركة إسرائيل فى ذلك العدوان مردها حماية الملاحة الدولية فى قناة السويس. فى عام 1967, كانت هناك شائعة شن هجوم عربى شامل عليها, وهو الأمر الذى أكسبها تعاطف الدول الغربية شعوبا وحكومات, وصورها كدولة تدافع عن نفسها. فى نفس الوقت كثفت إسرائيل شائعاتها بهدف تشويه المقاومة الفلسطينية ووسمتها بالإرهاب بهدف نزع الشرعية من الحقوق الفلسطينية, ودعمت تلك الشائعات بالاجتياح المتكرر لكل من لبنان وغزة, وبررت هجومها الوحشى كل مرة على المدنيين بأن الإرهابيين الفلسطينيين يهددون الأمن الإقليمى والسلام العالمي. فى نفس الوقت الذى تستخدم إسرائيل كل أدوات القتل والإبادة تستخدم شائعة أنها الديمقراطية الحقيقية فى الشرق الأوسط وأنها الدولة المدنية المتحضرة, وهو الأمر الذى كانت كل الشعوب الغربية تعتقد فيه حتى جاءت حرب الإبادة التى تشنها إسرائيل منذ أكتوبر 2023, فزعزعت تلك الشائعة الباطلة, لأن الجميع أصبح يرى التناقض الإسرائيلى بين ادعاء الحضارة وقتل الأطفال والشيوخ وتدمير المستشفيات والمساجد والجامعات والأخضر واليابس. عقب السابع من أكتوبر 2023, استخدمت اسرائيل شائعة أن حماس ارتكبت فظائع غير إنسانية فى عدوانها ضد اسرائيل وأن مقاتليها قطعوا رءوس الأطفال واغتصبوا النساء ثم قتلوهن بعد ذلك وأنهم بقروا بطون الحوامل. كان أمرا مستهجنا أن نشرت كل وسائل الإعلام الغربية الأساسية مثل نيويورك تايمز وغيرها تلك الشائعة الفجة الكاذبة ، وهى الصحف التى تتوخى الحذرفيما تنشر بمصداقية حاكمة لعملها. صارت هذه الشائعة بين ليلة وضحاها كأنها حقيقة لا تقبل النقاش والجدل رغم أن نيويورك تايمز والجارديان البريطانية وغيرهما نشرت تكذيبا لها بعد نشرها بأيام. رغم ذلك لم يكتفِ الرئيس الأمريكى بايدن خاصة وكل إدارته مرارا وتكرارا وخصوصا نائبته ووزير خارجيته. لم تكتف إسرائيل شعبا وحكومة وجيشا بترديد شائعة أن الجيش الإسرائيلى هو الأكثر أخلاقا فى العالم، رغم أن هذا الجيش ارتكب من الفظائع فى حرب الإبادة التى يرتكبها منذ السابع من أكتوبر والتى يشاهدها العالم أجمع ولا يصدق أحد من سكان الكرة الأرضية أنه جيش يمكن وصفه بالجيش الأكثر أخلاقا. شاهد العالم كله جيشا يجرف جثث الموتى بالجرافات ويقتل الأطفال بلا رحمة ويحرق المستشفيات على من فيها بلا هوادة أوإنسانية. شاهد جيشا يقيم جنوده معارض لملابس النوم والملابس الداخلية، للفلسطينيات. قرأ العالم كله وشاهد أفلاما صنعها أفراد إسرائيليون ساءهم الأمر ودفعتهم قسوة مواطنيهم ووحشيتهم لارتكات تلك الوحشية المفرطة, فلم يستطيعوا السكوت فقدموا شهادات دامغة شاهدها وقرأها العالم كله عن حوادث اغتصابات ممنهجة للأسرى الفلسطينيين. أما شائعة الجيش الذى لا يقهر التى كانت حجر الأساس فى الدعايات التى تشنها الموساد ووسائل الإعلام الغربية فقد أصبحت سرابا وباطلا لا يمكن عكسه وذلك من خلال صمود المقاومة الفلسطينية قرابة سنة ونصف سنة رغم تزويده بكل الأسلحة الغربية المعروفة وغير المعروفة والمشروعة والمحرمة دوليا والتى يستخدم بعضها لأول مرة. وفى المقابل توجد مقاومة ما زالت صامدة ولا يمدها أحد بسلاح ولا طعام لدرجة أن الأمر يستعصى على الفهم البشري: كيف يفعلها الفلسطينيون؟.
يستعجب الكثيرون كيف استطاع هذا الجيش هزيمة الجيوش العربية من قبل؟. نعم كيف استطاعت إسرائيل والغرب إقناعنا بأنه قادر على النصر فى حروبه مع الجيوش العربية. لابد أن حالة من الرعب تملأ جميع الإستراتيجيين الإسرائيليين أن مستقبل ذلك الجيش مظلم لا محالة. نعم كسرت مصر أنفه من قبل فى حرب أكتوبر, مثلما كسرت أنف الجيش المغولى فى عين جالوت.
قد تكون كلمات ناعوم تشومسكى أفضل توضيح لما ذكرته:
«إن آليات الإنكار فى إسرائيل فعالة للغاية, لأنها وسيلة شاملة للتلقين وتغطى حياة المواطن بالكامل من المهد الى اللحد. وهى تضمن للدولة أن شعبها لن يرتبك بين الحقائق والواقع, وأن ينظر إلى الواقع بطريقة لا تخلق أى مشكلات أخلاقية».
لمزيد من مقالات د. مصطفى جودة رابط دائم: