يمر النظام الدولى بتغيرات مهمة أدخلته فى أزمة عميقة. تغيرات النظام الدولى تحدث فى دورات، تمتد كل منها لعدة عقود، بسبب عوامل كثيرة، أهمها التغير فى توزيع موارد القوة بين الدول. الأزمة الراهنة فى النظام الدولى والتغير الحادث فيه لها وقع ووطأة تزيد على التغيرات التى حدثت فى دورات تغير النظام الدولى السابقة. السبب فى ذلك هو أن التغير الراهن فى النظام الدولى يترافق مع تغير عميق وجذرى بعيد المدى، ينتقل بمقتضاه مركز الثقل فى النظام الدولى فى اتجاه الشرق، من أوروبا والمحيط الأطلنطى، إلى آسيا والمحيط الهادي.
بعد خمسة قرون من الهيمنة الأوروبية والغربية على العالم، فإن ميزان القوى آخذ فى التغير لصالح آسيا. هناك تغير فى النظام الدولى، وهناك أيضا نهاية دورة حضارية وبداية دورة جديدة. التزامن بين المتغيرين يزيد من وطأة وأثر النتائج المترتبة على التغيرات الراهنة، ويزيد من صعوبة وتعقيدات الانتقال الراهن فى النظام الدولى.
منذ دخل العالم مرحلة الهيمنة الحضارية الغريبة فى القرن الخامس عشر، كانت التغيرات فى النظام الدولى تحدث عبر تعاقب قوى غربية على مقعد القيادة فى النظام الدولي. إسبانيا، هولندا، انجلترا، الولايات المتحدة؛ كلها قوى غربية توالت على قيادة نظم دولية متعاقبة، فى إطار حقبة الهيمنة الغربية طويلة المدى. كان هذا هو أحد العوامل التى سهلت التوالى على قيادة النظام الدولى، وسهلت الانتقال من نظام دولى إلى آخر.
لقد تغير هذا الوضع الآن، فالصعود الآسيوى، خاصة الصينى، يضيف صعوبات أكثر لعملية تغير وانتقال النظام الدولى، إذ يمثل نقلا لراية القيادة الدولية من قائد ينتمى إلى الإطار الحضارى الغربى إلى قائد ينتمى إلى إطارى حضارى مغاير، أو على الأقل فإنه يطرح، ولأول مرة،احتمال المشاركة فى قيادة النظام الدولى بين قوة غربية وأخرى آسيوية، وهو ما قد يتسبب فى توليد مقاومة أكثر حزما ضد عملية انتقال القيادة فى النظام الدولي.
يشهد العالم فى المرحلة الراهنة تغيرا عميقا فى توزيع موارد القوة بين الدول، فتزيد قوة بعض الدول بينما تتراجع قوة دول أخرى. الولايات المتحدة هى الدولة الأكبر فى العالم، وبقدر ما تلحق التغيرات بوزنها النسبى بين الدول بقدر ما تحدث التغيرات فى النظام الدولى. وصلت الولايات المتحدة إلى ذروة قوتها فى نهاية الحرب العالمية الثانية، وواصلت تربعها على قمة هيكل توزيع موارد القوة الدولية لعدة عقود. أما حاليا فإن مكانة الولايات المتحدة تتعرض إلى مزاحمة متزايدة، حتى كادت الصين تنهى تفردها بقمة النظام الدولى.
منذ عام 1870 والولايات المتحدة تحتل مكانة الاقتصاد الأكبر فى العالم، لكن الصورة آخذة فى التغير بوتيرة سريعة.
فى عام 1960 مثل الناتج المحلى الأمريكى 40% من إجمال الناتج المحلى العالمى، أما فى 2019 فقد انخفض نصيب الولايات المتحدة من الاقتصاد العالمى إلى 24% فقط. هذه النسبة مازالت كبيرة بالتأكيد لكنها لا تسمح للولايات المتحدة بنفس القدر الهائل من حرية الحركة الذى تمتعت به فى مرحلة سابقة.
فى 1960 كان إجمالى الناتج المحلى الإجمالى للبلاد الآسيوية المطلة على المحيط الهادى يمثل 7.8% من إجمالى الناتج المحلى العالمى، لكنه فى عام 1982 تضاعف ليصل إلى 16.4% من إجمالى الناتج المحلى العالمي. فى عام 1960 كانت تجارة الولايات المتحدة مع بلاد منطقة آسيا المحيط الهادى تمثل 48% من تجارتها مع أوروبا، وقد تضاعفت هذه النسبة لتصل إلى 122% من تجارة الولايات المتحدة الأوروبية فى عام 1983، فى دلالة على الأهمية المتزايدة لآسيا فى الاقتصاد العالمي.
حدثت هذه الزيادة المتسارعة لآسيا فى الاقتصاد العالمى قبل إصلاحات الصين وانفتاحها على الاقتصاد العالمى، والذى لم يبدأ حتى عام 1980، فبعد ذلك تسارعت معدلات التغير بشكل غير مسبوق. فى عام 2006 زاد الناتج الإجمالى للصين عن فرنسا، وفى 2007 تفوقت الصين على بريطانيا، وتفوقت على ألمانيا فى عام 2008، وعلى اليابان فى عام 2010.
أما بالمقارنة مع الولايات المتحدة، ففى عام 1990 مثل الناتج المحلى الإجمالى للصين 6% من الناتج الأمريكى، ليرتفع إلى 12%، 30%، 50% فى أعوام 2000، 2008، 2011. أما إذا أجرينا المقارنة باستخدام معادل القوة الشرائية، نجد أن الاقتصاد الصينى مثل 58% من الاقتصاد الأمريكى عام 2008، و80% منه عام 2012، ليتجاوز الولايات المتحدة لأول مرة عام 2014، وهو نفس العام الذى أصبحت فيه الصين صاحبة أكبر ناتج صناعى، وأكبر مصدر للسلع المصنعة فى العالم، كما أصبحت أكبر سوق للسيارات والهواتف الخلوية والنفط فى العالم.
لم يقتصر الأمر على الاقتصاد، بل تعداه إلى القوة العسكرية، ففى عام 2012 زاد ما أنفقته الدول الآسيوية على التسلح عن إجمالى ما أنفقته الدول الأوروبية، لأول مرة فى مائة عام. وتشير التقديرات إلى أنه بحلول عام 2030 فإن آسيا ستتجاوز أوروبا وشمال أمريكا مجتمعين فى مؤشرات القوة الشاملة، وتشمل الناتج المحلى والسكان والإنفاق العسكرى والاستثمار فى التكنولوجيا.
مؤكد أن المشاركة فى الجلوس على مقعد قيادة العالم، أو التعاقب عليه، لن يحدث بسلاسة. الأزمات والحروب المنتشرة فى العالم من حولنا هى نتيجة للصراع الجارى عند قمة العالم، والذى ستشعر كل مناطق العالم بآثاره بطرق مختلفة، وما علينا إلا أن نهيئ أنفسنا لسنوات صعبة.
لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد رابط دائم: