رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

سوريا والدنمارك

تصدر بلدان عناوين الأخبار فى الأسبوعين الماضيين، رغم ما بينهما من فروقات هائلة. البلد الأول هو سوريا التى هرب رئيسها وانهار نظام حكمه بعد أكثر من خمسين عاما من حكم الفرد. البلد الثانى هو الدنمارك التى زارها الرئيس عبدالفتاح السيسى، موقعا اتفاقا للارتقاء بعلاقات البلدين إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية. التزامن بين الحدثين هو مجرد مصادفة، لكنها مصادفة ذات دلالة. فقد جمعت عناوين الأخبار بين واحد من أكثر بلاد العالم فشلا، وأكثرها نجاحا، فيما كان اسم مصر ورئيسها يأتى مقترنا بالدنمارك، ذلك النموذج البالغ النجاح.

تحتل الدنمارك المركز التاسع عالميا من حيث متوسط دخل الفرد، وترتيبها الثانى بين دول العالم على المؤشر العالمى للسعادة، وفيها أقل مستوى من الفساد فى العالم، فهى تحتل المركز الأول على مؤشر الشفافية العالمى منذ عدة سنوات. تنأى الدنمارك بنفسها عن الحروب، وهذا اختيار واع، رغم أن للدنمارك تاريخا عسكريا مجيدا، فقد كانت مملكة الدنمارك لفترة طويلة مركزا لدولة موحدة تضمه مع النرويج والسويد، وأجزاء من استونيا وألمانيا. الدنمارك عضو فى حلف الناتو، وإن كانت لم تدخل حربا حقيقية منذ منتصف القرن التاسع عشر، فقد أعلنت الدنمارك الحياد فى الحرب العالمية الأولى، ولولا أن هتلر غزاها فى الحرب العالمية الثانية ما كانت لتدخل هذه الحرب أبدا. فى الدنمارك نظام سياسى ديمقراطى مميز. هناك فصل بين السلطات، والملك وإن كان لا يحكم، فإن له حقوقا ثلاثة، هى الحق فى أن تتم استشارته، والحق فى أن يقدم النصيحة للسياسيين المنتخبين، والحق فى أن يحذرهم عند اقتراب الخطر أو اقتراف الخطأ.

فى الدنمارك أحزاب سياسية نشيطة. أى حزب يحصل على اثنين بالمائة من الأصوات يتم تمثيله فى البرلمان، وهو ما يؤدى إلى تفتيت البرلمان بين عدد كبير من الأحزاب، ويحول دون ظهور أغلبية برلمانية. لم يفز أى حزب بالأغلبية فى برلمان الدنمارك منذ مطلع القرن العشرين، أى منذ أكثر من مائة عام، دون أن يؤثر هذا على استقرار البلاد. الأكثر من هذا هو أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أى منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن، فإن الدنمارك تحكمها حكومات لا تتمتع بالأغلبية فى البرلمان. كان هذا هو الحال طوال هذه الفترة، باستثناء أربع حكومات فقط تمتعت بالأغلبية، فكيف تمارس حكومات الأقلية الحكم؟ لا يشترط الدستور فى الدنمارك حصول الحكومة على تأييد أغلبية الأصوات لكى تبدأ فى ممارسة عملها، لكن الحكومة تسقط لو صوت ضدها أغلب أعضاء البرلمان بعد ذلك. لهذا تدخل الأحزاب السياسية، الحاكمة والمعارضة، فى مفاوضات دقيقة عند إصدار أى تشريع جديد لتوفير الأغلبية الضرورية، بما يعطى حتى لأصغر الأحزاب صوتا فى صناعة القوانين والسياسات. العلاقة بين الأحزاب فى الدنمارك علاقة تعاون أكثر منها علاقة صراع. هناك تنافس حقيقى فى الانتخابات، لكنه تنافس يغلب عليه التحضر والتهذيب، يتحول إلى تعاون بمجرد انتهاء الانتخابات. إنه نظام للإدارة أكثر منه نظاما للحكم، فيه الكثير من الإدارة والقليل من السلطة. فى الدنمارك ثقافة سياسية نادرة. على مؤشر المشاركة فى الأنشطة المدنية حصلت الدنمارك على 98 درجة، وهى الدرجة الأعلى فى العالم، تشاركها فيها دول قليلة مثل ألمانيا والولايات المتحدة. المواطنون فى الدنمارك يصوتون فى الانتخابات بمعدلات تصل إلى 85% فى أغلب الانتخابات.احترام المال العام والالتزام بالقانون هو الأمر العادى فى سلوك المواطن الدنماركي. شاركت فى زيارة مع آخرين من أبناء وطنى للدنمارك، فأدهشنا الاحترام الطوعى للقانون دون حاجة لعشرات أجهزة الرقابة.

أعود إلى سوريا للتذكرة ببعض المؤشرات والحقائق. تحتل سوريا المركز 179 بين دول العالم من حيث متوسط دخل الفرد. على مؤشر الفساد تأتى سوريا فى المركز 177 بين 180 دولة.لم يتم تنظيم انتخابات تعددية نزيهة فى سوريا منذ عام 1961. يوجد خارج سوريا ثمانية ملايين لاجئ سورى فى دول الجوار وأوروبا. يوجد داخل سوريا سبعة ملايين آخرين من النازحين داخل وطنهم. هناك كتب ومقالات تحمل عنوان «كيف تصبح مثل الدنمارك». هذه ليست منشورات دعائية كتبها موظفون أو مؤثرون دنماركيون،إنما دراسات رصينة لباحثين مرموقين فى الاجتماع والسياسة يحاولون شرح عوامل نجاح نموذج الدنمارك.

هل صادفت أبدا مقالا بعنوان «كيف تصبح مثل سوريا» بالتأكيد لا، لأن أحدا لا يريد أن يكون مصيره مثل مصير هذا البلد العزيز البائس. انتهت سوريا إلى المصير الذى آلت إليه لأن النخب الحاكمة فيها لم تحاول أبدا أن تأخذ بلدا مثل الدنمارك نموذجا لها. فى العالم الكثير من نماذج النجاح التى يمكن التعلم منها.

هناك كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان والصين وماليزيا، ونماذج كثيرة أخرى، غير أن نخبة الحكم والسلطة فى سوريا لم تقنع بأى من هذه النماذج، واختارت مصادقة حكومات تتاجر فى السلاح، ولا تثق فى مواطنيها، تحكمهم بقبضة حديدية، تفضلهم قتلى لا معارضين.

من حسن الطالع أن الرئيس السيسى كان فى زيارة الدنمارك عندما كانت سوريا تطوى صفحة حكم حزب البعث وبشار الأسد. هذه أول زيارة لرئيس مصرى للدنمارك، ولهذا دلالته. للعلاقة مع الدنمارك منافع كثيرة، اقتصادية وثقافية وأشياء كثيرة أخرى، فى مصر مشكلات كثيرة، لكن فيها أيضا اختيارات استراتيجية واضحة.


لمزيد من مقالات د. جمال عبد الجواد

رابط دائم: