سقط إقليم الشرق الأوسط فى مستنقع من الصراعات التى لاتنتهي، ولا تخمد النيران فى بؤرة ما إلا وتشتعل فى أخرى، بل فى كثير من الفترات تتواصل الانفجارات، وتتصاعد الأدخنة من أكثر من مكان فى وقت واحد، وكأنه كتب على هذه الأرض أن تظل مضطربة على الدوام، وأقل استقرارا من أى إقليم آخر، فهناك صراعات مسلحة، سواء أهلية أو عابرة للحدود، وهناك ميليشيات تجاهر بالعداء لشرعية الدولة ومؤسساتها، وهناك جماعات عرقية، وأخرى إرهابية لا تضع السلاح على الإطلاق.
ومما لا شك فيه أنه بتطور الأحداث المفاجئ فى سوريا يهدد الإقليم حريق إقليمي لم يشهده منذ عقود، فى وقت ظن فيه البعض أن بوادر التهدئة فى الجنوب اللبنانى تبشر بإسكات أصوات المدافع والطائرات التى لم تهدأ إلا قليلا منذ السابع من أكتوبر من العام الماضي، حيث دارت رحى معركة طويلة بين «حماس» وجيش الاحتلال الإسرائيلي، لا يزال ضحاياها من المدنيين الأبرياء يتساقطون بالآلاف، وما تبع ذلك من حرب فى الجنوب اللبنانى مع «حزب الله»، وهو ما كان سببا لمواجهة مباشرة بين إيران وجيش الاحتلال، بتبادل ضربات، يضاف إلى ذلك دخول اليمن فى الصراع، بعد أن شن «الحوثيون» سلسلة من الهجمات على السفن العابرة فى البحر الأحمر وخليج عدن، ودكت طائرات التحالف الغربى العديد من المناطق فى اليمن، ولا أحد يعلم ما تخبئه الأقدار عندما يدخل الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب البيت الأبيض فى 20 يناير المقبل، واحتمالات تطور الأمور إلى حرب شاملة إذا ما كان هناك صراع أكبر يشمل إيران والولايات المتحدة الأمريكية، وإن كانت الأجواء والمعطيات تؤكد أن كلا الطرفين لا يريد هذه الحرب.
وبعد هجمات حماس على إسرائيل فى 7 أكتوبر 2023 وتداعياتها، ظهر فى الأفق لأكثر من عام أن الإقليم على شفا دائرة أوسع للحرب فى دول الجوار، تشمل اليمن، ولبنان، وسوريا، والعراق، دون أن تنجح كل المحادثات الثنائية، والمؤتمرات الدولية، وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية فى إيقاف، أو حتى خفض التصعيد فى إقليم تؤكد الأحداث كل يوم أنه مقبل على حرب غير مسبوقة، وانفجار واسع النطاق فى إطار خريطة التنافس الجيو سياسي، رغم كتلة الاتزان التى تقودها مصر، التى تسعى دائما إلى الحد من تداعيات الحرب فى المنطقة، وتبريد الموقف قدر المستطاع، رغم الإصرار الإسرائيلى على استمرار الحرب من أجل تفكيك «حماس» وبنيتها التحتية العسكرية فى القطاع، وهو أمر صعب المنال، وإن حدث فإنه من الصعب تحقيق الاختراق الإستراتيجي، وإجبار الحركة على الاستسلام، والوصول إلى النصر الكامل الذى تحدث عنه رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نيتانياهو، وإن لم يضع سيناريو واقعيا بعد انتهاء الحرب فى غزة.
وأدركت الدولة المصرية، مع اندلاع حرب غزة، حقيقة ما يحدث والأهداف والنتائج، ووجهت جميع جهودها إلى تجنب حدوث تهجير جماعى للفلسطينيين من القطاع، سواء إلى سيناء أو غيرها، مما يعنى تصفية القضية الفلسطينية، وأعلنت رفضها التام لهذا الإجراء، سواء فى البيانات العلنية، أو فى المحادثات الثنائية، لتمنع بذلك نكبة جديدة، لا تقل عن نكبة عام 1948، للحفاظ على حقوق الفلسطينيين فى إقامة دولتهم المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، وأيضا حماية الأمن القومى المصري، وكعادتها قادت مفاوضات وقف إطلاق النار، وإنفاذ المساعدات إلى الأشقاء، وتصدت لكل الأكاذيب والشائعات الإسرائيلية بالحجة والبرهان.
إن إقليم الشرق الأوسط الذى يتمتع بمكانة خاصة فى العلاقات الدولية، يعانى من سياسة الكيل بمكيالين، وازدواج المعايير، ويتألم من جيوب الصراع التى تم زرعها فى أحشائه، ليواجه فى هذه الفترة حالة شديدة الصعوبة، ويحتاج إلى حلول غير تقليدية لاستشراف المستقبل الآمن، والخروج من المأزق، وإنهاء المشهد الضبابي، والهروب من دفع ضريبة جديدة، دون مراوغة معهودة، وتلاعب متعمد، وخداع يراه الجميع ظاهرا.
ولعل ما تعيشه المنطقة حاليا، لم يكن خافيا على الرئيس عبدالفتاح السيسى، الذى يقرأ الأحداث بعين القائد الذى يعى حقيقة الأمور، بل وسبق أن حذر منه عندما قال: «إنه من المهم الحفاظ على الدولة الوطنية، ودعم مؤسساتها فرض عين وضرورة حياة لمسـتقبل الشـعوب ومقدراتها، فلا يستقيم أبدا، أن تظل آمال شعوبنا، رهينة للفوضى والتدخلات الخارجية، التى تفاقم من الاضطرابات، وتصيب جهود تسوية الأزمات بالجمود، وأن الأمن القومى العربى كل لا يتجزأ».
وأضاف – فى كلمته خلال أعمال الدورة العادية الـ 32 لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة فى مدينة جدة بالسعودية: «إن الاعتماد على الجهود المشتركة لصياغة حلول حاسمة لقضايانا أصبح ضرورة ملزمة، ومرت منطقتنا، خلال السنوات الأخيرة، بظروف استثنائية قاسية هددت على نحو غير مسبوق، أمن وسلامة شعوبنا العربية، وأثارت فى نفوس ملايين العرب القلق الشديد على الحاضر، ومن المستقبل».
وتابع «لعله من الملائم، أن نعيد اليوم، تأكيد تمسكنا بالخيار الإستراتيجي بتحقيق السلام الشامل والعادل، من خلال مبادرة السلام العربية، وعلى أساس قرارات الشرعية الدولية، ومطالبة إسرائيل بإنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية على خطوط الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.. عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، تعد بمثابة التفعيل العملى للدور العربي، وبدء مسيرة عربية لتسوية الأزمة السورية، استنادا إلى المرجعيات الدولية للحل».
وبعد حوالى عام من تحذيرات الرئيس السيسى فوجئ العالم بهجوم من فصائل مسلحة على محافظتى حلب وإدلب، منهية حالة هدوء استمرت سنوات، وعادت مصر لتؤكد أن ما يحدث فى سوريا مقلق للغاية، وتجدد موقفها الداعم للدولة السورية ومؤسساتها الوطنية، وتحقيق الاستقرار ومكافحة الإرهاب، وبسط سيادة الدولة واستقرارها واستقلال ووحدة أراضيها.
وقالت على لسان وزير الخارجية بدر عبدالعاطى: إن هناك اتصالات تجرى مع أطراف عربية وغير عربية لاحتواء الموقف، بالتوازى مع تعبئة كل الموارد الدولية المتاحة توطئة للعمل على وقف فورى لإطلاق النار فى قطاع غزة، ومن ثمّ تهيئة الظروف لإعادة عمل معبر رفح، وفتحه من الجانب الفلسطينى بعد الانسحاب الإسرائيلى.
تلك هى مصر القوية التى أصبحت فاعلا فيما يدور بالإقليم، بفضل أمنها وأمانها واستقرارها، وحفاظها على الدولة ومؤسساتها، حتى خرجت بأقل الخسائر فى إقليم يحترق بشدة منذ شهور تجاوزت السنة.
***
إن إقليم الشرق الأوسط الذى يتمتع بمكانة خاصة فى العلاقات الدولية، يعانى من سياسية الكيل بمكيالين، وازدواج المعايير، ويتألم من جيوب الصراع التى تم زرعها فى أحشائه، ليواجه فى هذه الفترة حالة شديدة الصعوبة، ويحتاج إلى حلول غير تقليدية لاستشراف المستقبل الآمن
[email protected]لمزيد من مقالات مـاجــــد منير يكتب رابط دائم: