اجتاحت الميليشيات المسلحة مدينة حلب ومحيطها، وبدأ فصل جديد فى الدراما السورية. ينقسم تاريخ سوريا خلال العقود الثمانية الماضية إلى ثلاث مراحل، كانت سوريا فى المرحلة الأولى مخترقة، ومطمعا للجيران، وساحة للصراع بينها. فى المرحلة الثانية تخلصت سوريا من التدخلات الأجنبية، وحمت استقلالها، وتحولت إلى لاعب إقليمى رئيسي. فى المرحلة الثالثة الحالية عادت سوريا مرة أخرى إلى حالة الدولة الضعيفة المخترقة.
فى عام 1964 نشر الكاتب البريطانى باتريك سيل كتابا عنوانه: الصراع على سوريا اعتبر فيه أن الصراع من أجل السيطرة على سوريا هو الموضوع الأهم للسياسة العربية فى الفترة التالية للحرب العالمية الثانية. كانت الدول العربية حديثة الاستقلال قد نشأت لأول مرة بعد انتهاء الحكم العثماني. كانت هناك دولتا العراق والأردن، فيما بقيت سوريا تحت الحكم الفرنسى المباشر. حكم الهاشميون فى العراق والأردن، وتنافسوا بينهم للفوز بسوريا، مرة باسم الوحدة السورية، ومرة باسم وحدة الهلال الخصيب، كخطوات تمهيدية لوحدة عربية. كانت هناك أيضا دولتا مصر والسعودية، اللتان قاومتا هذه الخطط خوفا من ظهور دولة تهيمن على المنطقة.
كانت الشعارات نبيلة ومبهرة. كان هناك وحدويون واستقلاليون، لكن الشعارات لم تكن تخفى سوى صراعات الهيمنة والنفوذ بين الدول الناشئة فى المنطقة. انقسم السوريون بين وحدويين واستقلاليين؛ بين أنصار لفرع الهاشميين فى العراق، وأنصار لفرعهم فى الأردن، وحلفاء للسعودية ومصر أنصار الاستقلال. كانت المؤامرات كثيرة، والأموال المدفوعة سخية، فلحق بسوريا عدم استقرار مقيت. تلاحقت الانقلابات العسكرية فى سوريا، ولكل منها راع كريم عبر الحدود، فراجت نكتة تقول «إن من يستيقظ مبكرا قبل الآخرين يستولى على السلطة فى دمشق».
أصبحت اللعبة أكثر تعقيدا فى الخمسينيات، فقد ظهرت مصر الناصرية رافعة شعارات وحدة عربية من نوع جديد، معاد للاستعمار، بخلاف الوحدة العربية الهاشمية حليفة البريطانيين. فى داخل سوريا ظهر جيل جديد من الضباط والسياسيين المتحمسين. توزع هؤلاء بين وحدويين عرب على الطريقة البعثية والناصرية المعادية للعروش والاستعمار، وشيوعيين ألهمتهم دعاية الدولة السوفيتية المنتصرة على النازية فى الحرب العالمية الثانية. دخل السوفيت على الخط، ودخل معهم الأمريكان وحلفاؤهم الأتراك، فأصبحت لعبة الهواة المبتدئين المتنافسين فى الإقليم، مباراة كبرى بين محترفين يلعبون من أجل السيطرة على العالم.
تعمقت وتعددت انقسامات السوريين، فشاع عدم الاستقرار، وتحول حكم سوريا إلى مهمة مستحيلة. راجت شائعات عن انقلاب يدبره شيوعيون موالون لموسكو، يسابق غزوا تحشد له تركيا حليفة واشنطن. تحوط البعث والناصريون ضد الشيوعية والإمبريالية، فضغطوا من أجل الوحدة المصرية السورية، أول وآخر وحدة عربية فى التاريخ الحديث. لم تدم الوحدة طويلا، فقد انفصل السوريون ببلدهم بعد ثلاث سنوات، بعد أن تولى ناصر تأمين سوريا، والعبور بها سالمة من العاصفة المزدوجة الشيوعية والإمبريالية. استعادت سوريا استقلالها، فيما أخذت مصر تلعق جرح الانفصال المهين.
انتهت المرحلة الأولي، وقد فازت سوريا بقدر مناسب من الاستقرار، وظهرت فيها سلطة حاكمة قوية، وصلت إلى ذروة تبلورها على يد الرئيس حافظ الأسد. استقرت سوريا وتوحدت داخليا، واستعصت على التدخل والمؤامرات. حول حافظ الأسد سوريا من ساحة للتنافس والتآمر بين الكبار الدوليين والهواة الإقليميين، إلى لاعب مستقل، يجمع أوراق الضغط، ويمد نفوذ بلده إلى الجوار، فوضع يد سوريا على أوراق فلسطينية مهمة، وجرب حظه مع الأردن، وفرض سيطرة كاملة على لبنان؛ فلم يعد أحد يستطيع الدخول إلى المشرق العربى دون المرور عبر بوابة دمشق.
مات حافظ الأسد عام 2000، مخلفا ثروة سياسية كبيرة، لو أحسن استخدامها، ولو هبت الرياح الطيبة بدلا من الرياح الخبيثة.كان يمكن للأرصدة الكبيرة التى جمعها الراحل الكبير أن تتيح لخلفائه استثمارات سياسية تبقى بلدهم ضمن قائمة الكبار المتحكمين فى شئون المنطقة. لكن اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريرى فى عام 2005، أجبر سوريا على الخروج من لبنان، فى وقت كان فيه الأمريكيون قد احتلوا العراق المجاور قبل ذلك بعامين.
انفجرت احتجاجات الربيع الدامى فى عام 2011، ودخلت سوريا حربا أهلية، تدخل فيها الأتراك والروس والإيرانيون والأمريكيون، معتمدين على ميليشيات مسلحة من الجهاديين والإرهابيين والكرد والتركمان والشيعة، اقتسمت فيما بينها الجغرافيا السورية، مع تفوق واضح للمعسكر الذى تقوده إيران وحزب الله.
بعد عدة سنوات من الحرب دخلت سوريا مرحلة هدوء حذر، كان من الواجب استخدامه للتقدم باتجاه حلول تنهى مخلفات الحرب المعلقة. كانت هناك فرصة لتحقيق مصالحة بين السوريين، تجبر القوى الأجنبية على التراجع والانسحاب. حدث التلكؤ وتم إهدار الفرصة، حتى اختلت التوازنات السورية بعد الهزيمة التى لحقت بحزب الله وإيران على يد إسرائيل وانشغال روسيا فى أوكرانيا، فتقدمت ميليشيات جهادية، من أجل تخليص سوريا من التبعية الإيرانية. فى 1958 تحوطت سوريا ضد تدخل تركي، فلجأت إلى الوحدة مع مصر، فإلى من ستلجأ دمشق هذه المرة؟
دار التاريخ دورة كاملة فى سوريا، عنوانها التبعية والاختراق. ومازال الصراع على سوريا مستمرا، فطالما تدلت التفاحة اليانعة بلا ردع أو دفاع، سيكون هناك شياطين يوسوسون بالشر. هذا هو مغزى الدراما السورية.
لمزيد من مقالات د. جمال عبد الجواد رابط دائم: