رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

ترامب واستقلالية البنك المركزى

على الرغم من القضايا الاقتصادية العديدة التى تثيرها عودة الرئيس المنتخب «دونالد ترامب» إلى البيت الأبيض، خاصة السياسة الحمائية ورفع التعريفة الجمركية على الواردات من الدول الأوروبية والصين فضلا عن خفض الضرائب على الشركات الأمريكية وغيرها، إلا أن علاقته بالبنك الفيدرالى الأمريكى، البنك المركزى، تعد هى القضية الأكثر سخونة وجدلا. حيث يرى ترامب «ان الرئيس يجب ان تكون له كلمة على الأقل فى السياسة النقدية» ويضيف قائلا «أعتقد أن لدى حدسًا أفضل فى العديد من الحالات عن الذين يديرون الاحتياطى الفيدرالى»، بل ويرى أن «جيروم باول» محافظ البنك هو عدو أسوأ من الرئيس الصينى، على حد تعبيره. وهو ما جعل استقلالية البنك المركزى، والتى يتمتع بها منذ نشأته رسميَّا فى 23 ديسمبر عام 1913 عندما وقّع الرئيس الأمريكى «ويلسون» قانون الاحتياطى الفيدرالى، على المحك. وهو ما يعيد الجدل من جديد حول موضوع استقلالية البنوك المركزية، والتى اكتسبت زخما منذ سبعينيات القرن الماضى، وازدادت أهميتها عقب الأزمة المالية العالمية عام 2008. فأصبحت معظم قوانين البنوك المركزية تحتوى على استقلالية تامة.ويشير الفكر الاقتصادى إلى أن مصداقية السياسة النقدية وبالتالى قدرتها على تحقيق استقرار طويل الأجل للأسعار، مع حد أدنى من التكاليف الاقتصادية الحقيقية، يتطلب بالأساس أن يكون صنع السياسة النقدية فى أيدى مسئولين بعيدين عن السياسة يكون فى استطاعتهم النظر إلى المدى البعيد . من هذا المنطلق تأتى أهمية العمل على تدعيم مقدرة البنك المركزى على إدارة الشئون النقدية والتحكم فى السيولة المحلية، والمحافظة على معدل ملائم لنمو النقود يضمن تحقيق نمو اقتصادى معتدل.

وحتى الآن لم تستطع الخبرة التاريخية والدلائل التطبيقية حسم مسألة الاستقلالية، إذ بينما نلاحظ أن هناك العديد من البلدان ذات البنوك المركزية المستقلة تحقق معدلات تضخم منخفضة للغاية دون ان يؤثر ذلك على النمو . فهناك العديد من الدول ذات التضخم المنخفض، ولكن دون بنك مركزى مستقل. الأمر الذى يدفعنا للاعتقاد بأن هذه المسألة تظل رهنا بمدى وطبيعة التطور الاقتصادى بالبلاد والأوضاع المصرفية والنقدية السائدة والأوضاع السياسية. وتجدر الإشارة الى وجود عدة جوانب لمفهوم الاستقلالية سياسيا وقانونيا ووظيفيا. وهى أمور تتعلق بالطريقة التى تجعله يمارس سلطاته دون تدخل من أحد. وهذه المسألة تتطلب ألا يطلب ولا يتلقى تعليمات من السلطة التنفيذية أو أى مؤسسات أخري. وأن يكون مستقلا وظيفيا بمعنى أن توضع تحت تصرفه الأدوات اللازمة لممارسة السياسة النقدية بطريقة فعالة. كما يجب ان يتمتع أعضاؤه بالاستقلال. وهذه الأمور تنطبق تماما على الاحتياطى الفيدرالى الذى يعد من أكبر المؤسسات المالية وزنًا فى العالم من حيث القوة والتأثير من خلال سياساته، حيث تتم متابعة قراراته بصورة تفصيلية من قبل كل دول العالم، لأن أى تغيير قد يطرأ على السياسة النقدية الخاصة به تؤثر على أسواق العالم بأكمله. ويلعب دورًا بارزًا فى العديد من المهام فى النظام المالى والاقتصاد الأمريكى والعالمي. حيث تم تصميمه، مثل معظم البنوك المركزية، لأداء ثلاث وظائف مهمة لإجراء السياسة النقدية ولتعزيز استقرار النظام المالى وتقديم الخدمات المصرفية للبنوك التجارية ومؤسسات الإيداع الأخرى، وتقديم الخدمات المصرفية للحكومة الاتحادية. ويضم مجلس محافظى البنك سبعة أعضاء تبلغ مدة تعيينهم أربعة عشر عامًا، ويعينهم الرئيس الأمريكى ويقر تعيينهم مجلس الشيوخ، ويختار منهم رئيس المجلس ونائبه. ويعد البنك الفيدرالى الأمريكى مؤسسة مستقلة تماما، اذ ليس من الضرورى أن يقر الرئيس الأمريكى أو أى مسئول حكومى ما يتخذه البنك من قرارات وسياسات. ولا يتلقى أى تمويل من الكونجرس، كما أن شروط أعضاء مجلس المحافظين قد تمتد لعدة فترات رئاسية.غير أنه يخضع لمراقبة الكونجرس، حيث يتم التواصل مع البنك من خلال تقديم التقارير المفصلة، إذ يجب أن يدلى رئيس مجلس البنك الفيدرالى الأمريكى وأعضاء مجلس الإدارة بشهادات متكررة أمام أعضاء الكونجرس. كما يجب أن يقوم بتقديم تقرير مفصل عن السياسة النقدية مرتين فى السنة إلى الكونجرس. وكذلك بعد انعقاد كل اجتماع تقوم اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة بنشر بيان مفصل، كما يتم توفير محضر اجتماع أو ما يسمى عادة اجتماع الفيدرالى الأمريكى بشكل مفصل بعد ثلاثة أسابيع، كما تتم إتاحة النصوص الحرفية بعد خمس سنوات. وجدير بالذكر أن البنك الفيدرالى الأمريكى غير مسئول عن طباعة العملات فهى مسئولية وزارة الخزانة الأمريكية. من هذا المنطلق نرى أن الظروف الحالية تحتاج إلى الفصل التام بين السياسة النقدية والمالية عن طريق تدعيم سلطات البنك المركزى وضمان استقلاليته عن السلطات الأخرى. ووضع الآليات والوسائل التى تحقق الشفافية الكاملة فى أعماله والتى تعد من العوامل الضرورية التى تمكن المواطنين بوجه عام من المراقبة والمحاسبة. فثمة حاجة للمساءلة من أجل ضمان الحوكمة الرشيدة، فالبنك المركزى لا يعمل فى فراغ فهو مؤسسة عامة، ينبغى أن يكون موضع مساءلة. ولن يتسنى ضمان استقلاليته على المدى الطويل إلا بتعزيز الحوكمة وزيادة الشفافية والمساءلة بصورة متزامنة. الأمر الذى يتطلب تعزيز درجة الإفصاح فى قراراته وإجراءاته كعامل جوهرى فى هذا الخصوص. وبوجه عام، غالبا ما تعترف القوانين بأنه فى حالة تلاعب الساسة بالسياسة النقدية لزيادة شعبيتهم، فإن الأولوية التى يعطونها للمكاسب السياسية قصيرة الأجل يمكن أن تجلب معاناة اقتصادية طويلة الأجل. وهو ما يقوض البنك المركزى فى تحقيق أهدافه، ويوجد مخاطر طويلة الأجل تشكل تهديدا للاستقرار الاقتصادى والمالي. ومن أمثلة الشفافية الملائمة نشر تقارير فنية مفصلة وحديثة وبصورة دورية عن الأوضاع النقدية والائتمانية، وتنظيم مؤتمرات صحفية لشرح الجوانب المختلفة للقرارات أو بكلمات محافظ بنك احتياطى جنوب إفريقيا ورئيس اللجنة الدولية للشئون النقدية والمالية السابق بصندوق النقد «حتى يقَدر المجتمع الأدوار التى نضطلع بها، علينا أن نصطحب المجتمع معنا فى خطواتنا بحيث لا نكون نحن فقط من يدافع عن استقلاليتنا حين تتعرض البنوك المركزية للهجوم». إنها الخطوة الأكيدة للمساعدة فى إعادة بناء الثقة الجماهيرية فى البنوك المركزية كمؤسسات يعتمد عليها تأخذ على عاتقها الدفاع عن السياسات الاقتصادية غير التضخمية والمنشئة لفرص العمل.


لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالى

رابط دائم: