رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

صراع المظلوميات فى الشرق الأوسط

«عندما ينظر المرء إلى المشرق العربى تنتابه رائحة مزعجة لا يلبث أن يكتشف أنها رائحة الموت. ذلك أن أبناء هذه المنطقة من العالم لم يعرفوا فى تاريخهم الحديث والمعاصر مرحلة يموتون فيها بهذه الأعداد، بهذا التكرار، بهذه الرتابة، أو بهذه اللامبالاة، ترتفع الأعلام السود على الشرفات وتتزايد صور الشهداء على الجدران وفى قاعات الاستقبال، وما تبقى من العرب ومن دول العالم لا يدرى أو لا يبالى، وهو على أى حال، لا يعيش، إلا باستثناءات قليلة، هذا المستوى المقلق من صحبة الموت».

الفقرة السابقة هى الفقرة الأولى فى المقدمة التى كتبها الدكتور غسان سلامة لكتابه الرائع «المجتمع والدولة فى المشرق العربى». صدر الكتاب عام 1987، أى قبل أقل من أربعين عاما، نشب خلالها المزيد من الحروب، وسال المزيد من الدماء، وفاحت رائحة الموت المزعجة أكثر وأكثر. منذ نشر الدكتور غسان سلامة كتابه احتل العراق الكويت عام 1990، وحارب الأمريكيون وحلفاؤهم لتحرير الكويت، وفرضوا حصارا على العراق عام 1991، ثم قاموا بغزو جديد للعراق عام 2003. خيضت فى العراق حروب المقاومة وإرهاب القاعدة، وقامت فى مناطق منه ومن سوريا دولة داعش الإسلامية، فنكلت بالأقليات التى صادفتها فى طريقها، فجرى قتل وأسر وسبى الكرد والشيعة والإيزيدييين والآشوريين والمسيحيين.انتفض الفلسطينيون خلال هذه السنوات مرتين، وفصلت حركة حماس قطاع غزة عن السلطة الوطنية الفلسطينية، بعد أن سحلت وقتلت عددا لا بأس به من كوادر حركة فتح.قامت عدة مواجهات عسكرية دامية بين حماس وإسرائيل. قامت حرب 2006 بين إسرائيل وحزب الله، وقامت حرب أهلية مازالت مستمرة فى سوريا، شارك فيها الإيرانيون وميليشيات شيعية تم تجنيدها فى باكستان وأفغانستان، وشارك فيها أيضا حزب الله وتركيا وروسيا، وطبعا شاركت أمريكا التى لا تفوت فرصة المشاركة فى أى حرب. حدث كل هذا قبل الحرب الحالية الممتدة منذ السابع من أكتوبر 2023، والتى شملت الضفة وغزة وإسرائيل ولبنان وسوريا وإيران والعراق واليمن. طبعا لا يجب إسقاط ليبيا واليمن والسودان من القائمة، وإن كانت تقع جغرافيا على التخوم الخارجية للمشرق العربى.

العنف الكثيف فى المنطقة وراءه طوائف وعرقيات وقبائل وشعوب ودول لديها مظلوميات تجعلها ترفض الوضع القائم، فتتمرد من أجل تغييره. المظلوميات الكثيفة فى المنطقة هى السبب الكامن وراء الارتفاع الشديد فى مستويات العنف فيها. فى الشرق الأوسط يوجد الكثير من العنف داخل الدول، والعنف العابر لحدود الدول، والعنف المباشر بين حكومات شرعية تحكم دولا ذات سيادة.

قائمة الحروب الطويلة فى الشرق الأوسط تبين أن تحقيق السلام فى الشرق الأوسط هو أمر صعب لدرجة الاستحالة. يأتى السلام عندما يرضى سكان المنطقة عن الواقع القائم فيها، وهو أمر لا يبدو أنه سيحدث فى منطقتنا قريبا. لا أحد سعيد فى الشرق الأوسط. فى منطقتنا عدد كبير من العرقيات والطوائف والدول والنخب الحاكمة غير الراضية عن وضعها الراهن، وترى أنها تعرضت لظلم تاريخى فادح، عليها تصحيحه عبر إعادة رسم خرائط المنطقة، فتتشتت شعوب، وتنهد دول، وتسقط حكومات.المدافعون عن الوضع القائم فى الشرق الأوسط أقلية فى مواجهة عدد كبير من الغاضبين.صاحب المظلومية يرى نفسه على حق، ولا يرى فى العنف الذى يمارسه تهديدا للسلم والأمن، إنما هى حرب على الباطل من أجل إقامة العدل. المشكلة هى أن أصحاب المظلوميات يتمردون منذ عقود، فلا المظلومية انتهت، ولا الإقليم استقر.

ليس للمظلومية صلة قوية بوقائع التاريخ الفعلى، لكنها سرديات الجماعات المختلفة عن نفسها ووقائع تاريخها، بكل ما فى ذلك من انتقائية وتقديم وتأخير وإبراز وإسقاط. عندما نتحدث عن مظلومية جماعة من الجماعات فإننا نتحدث عن المشاعر والرواية السائدة فى أوساطها، دون إقرار بحقيقة تاريخية معينة. التاريخ، حمال أوجه؛ وما المظلوميات المتنافسة فى المنطقة سوى بعض من القراءات المحتملة لتاريخ المنطقة.

الفلسطينيون هم أصحاب أكثر مظلوميات الشرق الأوسط صدقا وأقلها أسطورية. بعض الفلسطينيين تكفيهم دولة فى الضفة والقطاع. هناك فلسطينيون آخرون لا يرضون بأقل من كل فلسطين من البحر إلى النهر. اليمين الإسرائيلى يرى لإسرائيل حقا فى الأرض الموعودة كلها، بما فى ذلك أراضى دول مجاورة، وإلا استمرت المظلومية اليهودية.

هناك المظلومية الشيعية، وهى مظلومية مركبة عقيدية وسياسية. هناك مظلومية الإمام على الذى تم حرمانه من الولاية ثم قتله. هناك أيضا تهميش الشيعة فى ظل الدولة العربية الحديثة التى حكمت بعد سايكس بيكو، بما فى ذلك فى البلاد ذات الأغلبية الشيعية. التعبيرات السياسية عن الإسلام السنى مليئة بحديث المظلومية الساعية لإعادة بناء دولة الخلافة التى هدمها الغرب الصليبى، وعندها سنفرض الأستاذية على العالم. الأكراد أيضا لهم مظلوميتهم، فهم مقسمون، وليس لهم دولة، ومحرومون فى بلاد كثيرة من ممارسة ثقافتهم ولغتهم. دول الشرق الأوسط تخشى الأقليات وتشك فيهم، فتضعهم تحت رقابة وتهميش يؤسس للمظلومية والغضب.

عندما يشعر كل هؤلاء بالمظلومية، فإن الصراع فى الشرق الأوسط يكون هو المحصلة الطبيعية.سيحل السلام عندما تتوافق الدول، وترضى الجماعات والشعوب بالواقع القائم فى الإقليم، ولا أظن أننا سنرى هذا قريبا. حتى يحدث ذلك، فإن السلام فى الشرق الأوسط حلم مؤجل.


لمزيد من مقالات د. جمال عبد الجواد

رابط دائم: