لم تمر أسابيع قليلة حتى بدأ الحديث الغربى والإسرائيلى حول «اليوم التالي» فى غزة. لم يكن هذا الحديث بريئا تماما، سواء من حيث التوقيت أو المضمون. من حيث التوقيت جاء الحديث مبكرا جدا، وكان الهدف واضحا وهو لفت أنظار العالم بعيدا عما يجرى داخل القطاع، لمصلحة الانشغال بجدال مقصود حول طبيعة هذا اليوم «المنتظر». ولم يكن بريئا من حيث المضمون، إذ طرحت أطراف عدة تصورات مختلفة حول طبيعة هذا اليوم، بعضها تجاهل الحقائق والواقع الجيوسياسى الذى يؤسس لعلاقة خاصة ربطت غزة بمحيطها وجوارها الجغرافى المباشر، واستهدف بعضها الآخر خلق واقع جديد يقوم على محاولة فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية والسلطة الوطنية الفلسطينية، والتعامل معها كوحدة جغرافية منفصلة، وانحاز بعضها إلى محاولة ضمان هيمنة سلطة الاحتلال على مقدرات القطاع اقتصاديا وأمنيا وديموغرافيا.
كان موقف مصر واضحا منذ أن بدأ هذا الجدال، من خلال التأكيد على عدد من الأسس، أبرزها أن ملامح هذا اليوم يجب أن يحددها الفلسطينيون بالأساس باعتبارهم الأصحاب الحقيقيين للقضية، ورفض أى وضع يؤسس لفصل القطاع عن الضفة، وأن تكون إدارة القطاع مسئولية السلطة الوطنية الفلسطينية، وعدم خلق أى واقع أمنى داخل القطاع مغاير لما كان قائما قبل السابع من أكتوبر 2023 أو بشكل مناقض للاتفاقيات والمعاهدات القائمة والمستقرة. وبالتوازى مع ذلك، انخرطت مصر -رغم كل التعقيدات والتطورات السلبية داخل القطاع وفى الإقليم- فى جولات متتالية من المباحثات بهدف فرض هدنة تنتهى إلى وقف دائم لإطلاق النار وإنهاء العدوان، وهو ما لم يتحقق حتى الآن بسبب التعنت الإسرائيلي. الموقف المصرى بشأن اليوم التالى لم يكن يتعامل مع مشهد بسيط؛ فبجانب الأهداف غير المعلنة التى سعت إليها أطراف عدة، كان الواقع القائم لا يقل تعقيدا، بما فى ذلك داخل قطاع غزة، وحالة العلاقات الفلسطينية- الفلسطينية. لكن مع ذلك، لم تتوقف الجهود المصرية الرامية إلى قطع الطريق على المخططات الإسرائيلية، وأى إسناد دولى لها، من شأنه خلق واقع داخل قطاع غزة قد يأتى على حساب القضية الفلسطينية أو الأمن القومى المصرى.
فى هذا السياق، جاءت أهمية آلية «لجنة الإسناد المجتمعي»، والتى حظيت بتوافق بين حركتى فتح وحماس، لإدارة قطاع غزة. التوافق على هذه الآلية يحمل دلالات شديدة الأهمية، ليس فقط بالنسبة لملامح «اليوم التالي» فى قطاع غزة، لكن بالنسبة أيضا لمستقبل القضية الفلسطينية بشكل عام، والعلاقات الفلسطينية- الفلسطينية بشكل خاص.
من ناحية أولى، جاءت هذه الآلية لتثبت من جديد أن مصر هى الطرف الوحيد الذى يمتلك القدرة على طرح أفكار وآليات محددة للتعامل مع العدوان الإسرائيلى وتبعاته، وأنها الطرف الوحيد الذى يمتلك القدرة على طرح آليات غير تقليدية للتعامل مع هذا الواقع المعقد. لقد تأكد ذلك عبر مراحل الصراع الفلسطينى الإسرائيلى المختلفة، وعبر موجات التصعيد الإسرائيلى المتتالية على القطاع، وصولا إلى الأزمة الخطيرة الحالية. كانت مصر فقط هى التى طرحت أوراقا شكلت أساسا للمباحثات ومشروعات الهدنة. هذه واحدة من الحقائق المهمة التى لن يكون بمقدور أى طرف تجاوزها، لأنها ترتبط ليس فقط بالثقل السياسى والدبلوماسى المصري، لكنها تستند أيضا إلى الواقع الجيوسياسي.
من ناحية ثانية، فإن لجنة الإسناد المقترحة، وما حظيت به من توافق بين حماس وفتح، يمثل تحولا يمكن البناء عليه فيما يتعلق بملف المصالحة الفلسطينية، والعلاقات الفلسطينية ــ الفلسطينية. مثل هذا التوافق حول ملف مهم بحجم وثقل المسئولية عن قطاع غزة بعد انتهاء العدوان، يمكن أن يؤسس لتوافق فلسطينى أوسع حول ملفات عديدة مازالت معلقة منذ سنوات، تتصل بإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، والانتخابات، وحالة الانقسام الفلسطيني، وغيرها، وهى ملفات تحتاج إلى روح ورؤى فلسطينية جديدة تنطلق من فهم دقيق لطبيعة المرحلة الراهنة وما تنطوى عليه من مخاطر ضخمة بالنسبة للقضية الفلسطينية والإقليم بشكل عام. نجاح القوى الفلسطينية فى بناء التوافق حول هذه الآلية مثل اختبارا مهما لإدراك هذه القوى لحجم المسئولية الملقاة على الجميع. ولم يكن هذا التوافق ليتحقق لولا الجهود المصرية الضخمة فى مجال إصلاح الداخل الفلسطينى من خلال مشروع المصالحة، وهى جهود ليست وليدة اللحظة الراهنة.
من ناحية ثالثة، فإن هذه الآلية تمثل ضربة مُوُجِعة لكل المحاولات الإسرائيلية والدولية للقفز على السلطة الوطنية الفلسطينية باعتبارها السلطة الأصيلة المسئولة عن إدارة الشئون الفلسطينية على الأراضى الفلسطينية، وضربة مُوُجِعة لمحاولات صياغة مستقبل قطاع غزة بمعزل عن الضفة الغربية، كجزء من إستراتيجية مخططة لفصل القطاع عن الضفة. لقد جاء التوافق الفلسطينى على آلية «لجنة الإسناد المجتمعي» لتكون تحت علم السلطة الوطنية الفلسطينية وإشرافها المباشر ليمثل رسالة مصرية ــ فلسطينية واضحة فى هذا الشأن.
من ناحية رابعة، فإن أى محاولات إسرائيلية أو دولية لتحديد مستقبل قطاع غزة لن يكون بمقدورها تجاهل «لجنة الإسناد المجتمعي»، وما حظيت به من توافق فلسطيني؛ بدءا من محاولات تجاهل السلطة الوطنية الفلسطينية كمسئول رئيسى فى اليوم التالى داخل القطاع، أو الحديث عن هيمنة حركة حماس على القطاع كتكأة لاستمرار العدوان وفرض صيغة محددة داخله. كما ستمثل معطا مهما لا يمكن تجاهله عند مناقشة عمليات إعادة إعمار القطاع، وهو الملف الرئيسى الذى سيفرض نفسه عاجلا بعد انتهاء العدوان الغاشم.
خلاصة القول، سيظل الدور المصرى هو الأكثر حضورا والأكثر مصداقية فى دعم القضية الفلسطينية، وهو الأكثر قدرة على حماية مقدرات الشعب الفلسطيني، وحماية المعادلات القائمة داخل القطاع وخارجه، وعدم إدخال أية تغييرات جوهرية من شأنها الإضرار بتلك المعادلات. وقبل ذلك ستظل مصر هى الأكثر قدرة على التعامل مع الأسئلة الكبيرة ذات الصلة بهذا الملف الرئيسى بالإقليم بالتنسيق مع الأشقاء الفلسطينيين، حتى وإن نجح الاحتلال فى تدمير البنية التحتية والعمران داخل القطاع.
مصر هى الطرف الوحيد الذى يمتلك القدرة على طرح أفكار وآليات محددة للتعامل مع العدوان الإسرائيلى وتبعاته، وأنها الطرف الوحيد الذى يمتلك القدرة على طرح آليات غير تقليدية للتعامل مع هذا الواقع المعقد.
[email protected] لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات رابط دائم: