جاء الرد الإسرائيلى المنتظر على إيران محجما وضعيفا لحفظ ماء وجه إسرائيل. قبله ومنذ الضربة الإيرانية الأخيرة، كانت هناك أصوات سياسية وإعلامية فعالة ومؤيدة لإسرائيل فى أمريكا لتفعل أقصى ما تشاء فى ردها على الضربة الإيرانية الأخيرة، منها صحيفة وول ستريت جورنال التى نشرت فى أول أكتوبر 2024، فى افتتاحيتها أن يكون الرد الإسرائيلى حاسما وأن تكون ضربة إسرائيل القادمة موجعة وقاضية وتشمل ضربات للقضاء على البرنامج النووى الإيرانى. كما أن المتطرفين فى حكومة نيتانياهو كانوا يريدون ذلك أيضا. المفاجأة لماذا لم تفعل إسرائيل ذلك وخصوصا أن هناك رئيسا أمريكيا ضعيف منتهى الصلاحية ولم ينصت له نيتانياهو أبدا خلال العام الماضى؟. القراءة الأولى تدل على أن الحسابات الإسرائيلية التى درست كل المعطيات والاعتبارات دراسة إستراتيجية وخلصت إلى ضرورة أن يكون هدف تلك الضربة محدودا كما شاهد العالم كله ولأول مرة لم تعبث إسرائيل مثلما هو معروف عنها. بداية هناك الانتخابات الأمريكية والتى كان يظن نيتانياهو العارف بكل أسرارها أن ترامب سيكون الفائز بها وكانت هناك إتصالاته المستدامة مع ترامب كما ذكر ترامب نفسه وكان واضحا أن نيتانياهو يريد أن يكون دوره حاسما فى تلك الإنتخابات وكان يريد أن يكون هو مفاجأة أكتوبر المعروفة فى عرف فى الإنتخابات الأمريكية وهى أمر يكاد يكون عرفا فى الانتخابات الأمريكية، ولكنه أدرك أن آخر استطلاعات الرأى تظهر أن المرشحين متعادلان وأن ترامب غير مأمول العواقب وأن تصريحاته الأخيرة التى كشفها مستشار أمنه السابق جون كيللى بأنه قال أنه معجب بهتلر وجنرالاته العسكريين وأنه كان يتمنى أن يكون الجنرالات الأمريكيون مطيعين مثلهم فى سماعهم لأوامره عندما يصدرها. كان هذا التصريح مفاجأة أيضا وخصوصا فى مثل ذلك الوقت الحاسم قبل الانتخابات بعشرة أيام. الآن تستطيع المرشحة الديمقراطية أن تقول خفضنا التوتر من حدوث حرب شاملة فى الشرق الأوسط. وكانت هناك أيضا قمة بريكس التى أصبحت قطبا حقيقيا وفعالا يجب الإستماع إليه ويجب أن تنصت إليه أمريكا والغرب. كان انعقاد مؤتمره الأخير فى روسيا فى ذلك الوقت أمرا حاسما.
هناك أيضا الحرب الروسية الأوكرانية التى أصبحت محسومة لصالح روسيا وأنها تصدت لحلف شمال الأطلنطى الذى كان متدخلا فى الحرب بكل إمكانياته العسكرية والاقتصادية وهزمته فعلا. هناك وقبل كل شىء، أن إسرائيل دولة محدودة الإمكانات وتعتمد فى وجودها على الكرم الغربى والأمريكى عسكريا واقتصاديا وأنها أصبحت منهكة بعد أكثر من عام فى مواجهة المقاومة الفلسطينية الباسلة فى غزة والتى أذهلت العالم بصمودها وشجاعتها ثم جاءت عملياتها الإرهابية ضد حزب الله واغتيالها أمين الحزب السيد حسن نصر الله وخلفاءه ثم عمليات تعثرها فى هجومها البرى والذى أصبح بين عشية وضحاها مثل فيتنام لها حيث إسترد حزب الله قوته وتعافيه وبدأ الشعب الإسرائيلى يستقبل كل يوم نعوشا لإبنائه وأن الأمور تنذر بخطر داهم على إسرائيل التى أصبحت لا تملك غير هدم البيوت وترويع المدنيين بسلاحها الجوى. ثم كانت هناك أيضا عملية محاولة اغتيال نيتانياهو بواسطة مسيرة لحزب الله وأصبحت تمثل أمرا مفزعا لنيتانياهو الذى لا ينصت لأحد. لقد جاءته تلك المسيرة مثل ملك الموت فأصابت حجرة نومه، ولكن إرادة الله وقدره بخصوص عمره لم تحن بعد. كانت إسرائيل تنجو وتأمن العقاب فى كل عمليات الإغتيالات العديدة التى نفذتها فى الكثيرين منذ نشأتها الأولى. كانت تلك العملية تحمل رسالة واضحة أنه منذ الآن «أن لكل إغتيال إغتيالا مثله»، وأن الأمر لا يحتاج غير مسيرة وما أكثر المسيرات. كل هذه العوامل مجتمعة تجسدت لقادة إسرائيل الذين ظنوا أنهم أحرار فيما يفعلون وأنهم لا يبالون لأصوات العقل حتى من أصدقائهم المقربين والداعمين لهم بالسلاح والمال. كان نيتانياهو لا ينصت لأحد ويطلب من الجميع أن ينصتوا له ولكنه رأى الموت رأى العين فغير رأيه. من هنا سمعت إسرائيل لصوت العقل فيما يبدو واستجابت للمشورة الأمريكية والتى فيما يبدو كانت موثقة بكثير من التفاصيل الاستخباراتية التى تمنحها أمريكا لها، وأنها لوضربت المنشآت الذرية الإيرانية فإن إيران قادرة أيضا على ضرب المنشآت الذرية الإسرائيلية فى ديمونة. من هنا جاءت الضربة رمزية مثل الضربة الإيرانية الأولى. هذه الضربة الإسرائيلية هى مفاجأة أكتوبر الكبرى فى الإنتخابات الأمريكية التى ستجرى يوم الثلاثاء القادم. أيضا ستجنى إسرائيل الكثير من الفوائد ومنها تحقيق السلام مع حزب الله ولبنان وفى غزة. إسرائيل المنهكة فى غزة وفى لبنان تريد التقاط أنفاسها.
إسرائيل التى كانت تظن أنها القاضية والآمرة والناهية قبل السابع من أكتوبر أصبحت فى حجمها الطبيعى: دولة تعتمد فى وجودها على المساعدات الغربية منذ نشأتها ومن هنا اتضح لها أنها لا تستطيع تحقيق ذلك إلى نهاية الزمان. إسرائيل أيضا تحلم بتطبيع علاقاتها مع المملكة العربية السعودية وبقية الدول العربية وبالتإلى فإنه يتعين عليها ألا تستمر فى إشعال نار الحروب المضرة بالعالم كله وأن الدنيا كلها تريد إطفاء تلك النار.
الخاسر الأكبر سيكون ترامب الذى يظهر كثيرا منذ مدة ويتحدث عن مكالماته مع صديقه نيتانياهو ويمدح أفعاله وتصرفاته ويثنى عليه ابتغاء مرضاته.يبدو أن ترامب غضب بسبب نتائج وضعف الغارة، فقام على الفور بدعوة الجالية العربية والإسلامية فى ولاية ميتشجان المهمة يوم السبت الماضى وسمح لقائدهم بإلقاء كلمة فى حشده الانتخابى، ذكر فيها تأييدهم لترامب واستجابة ترامب لمطالبهم. قد تتسبب تلك الفعلة فى حسم نتيجة الانتخابات لمصلحة ترامب.
لمزيد من مقالات د. مصطفى جودة رابط دائم: