رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

مصر والمجموعات الدولية الجديدة

تبذل الدولة المصرية جهدا ضخما فى إدارة العديد من أزمات الشرق الأوسط، الذى يمثل محيطها الإقليمى المباشر، والدائرة الأولى فى حماية الأمن القومي، خاصة فى ظل تعدد مصادر التهديد وعدم الاستقرار والتى باتت تتسم بطابع هيكلى مرتبط بطبيعة الإقليم. فى الوقت نفسه، تبذل الدولة جهدا لا يقل أهمية لتعزيز المصالح المصرية، وتعزيز ثقل مصر داخل النظام الاقتصادى العالمي. ويُحسب لصانع القرار المصرى أن المسار الأول الخاص بحماية الأمن القومى ــ رغم أهميته الشديدة ــ لا يأتى على حساب المسار الثاني.

 

المسار الخاص بتعزيز المصالح المصرية داخل النظام الاقتصادى العالمى يأخذ أشكالا ومسارات فرعية عدة. أحد أبرز هذه المسارات هو اندماج مصر فى المجموعات الاقتصادية والمالية الدولية الجديدة، التى بدأت فى التطور فى أواخر القرن الماضي، وتسارعت وتيرتها عقب تفكك الاتحاد السوفيتى ثم صعود الصين، وما ارتبط بذلك من إعادة توزيع القدرات الاقتصادية والمالية. شمل ذلك اندماج مصر كعضو مؤسس فى «البنك الآسيوى للاستثمار فى البنية التحتية» AIIB (أغسطس 2016)، ثم «بنك التنمية الجديد» NDB (مارس 2023)، ثم كان التحول الأبرز هو حصول مصر على عضوية مجموعة بريكس بدءا من يناير 2024. أضف إلى ذلك دعوة مصر للمشاركة فى عدد من اجتماعات مجموعة العشرين G20.

هذا التوجه المصرى يحمل مجموعة من الدلالات المهمة. من ناحية، لا يمكن فهم هذا التوجه الاستراتيجى المصرى بمعزل عن وجود قراءة مبكرة لدى صانع القرار لحجم واتجاهات التحولات الإستراتيجية التى مثلت مقدمات مهمة لتحول النظام العالمى؛ إذ تمثل المجموعات الدولية، وما ارتبط بها من مؤسسات مالية، تعبيرا دقيقا عن حجم التغيرات الهيكلية فى النظام العالمي، وتوزيع هيكل القدرات الاقتصادية والمالية، وتحول الثقل النسبى لعملية صنع القرار الاقتصادى من المجموعات الدولية التقليدية (مجموعة السبع الصناعية)، ومؤسسات بريتون وودز (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، منظمة التجارة العالمية) إلى المجموعات الاقتصادية والمالية الجديدة (يمكن الرجوع هنا إلى نصيب هذه المجموعات المتزايد من الناتج العالمي، والتجارة الدولية، والسوق العالمي... إلخ). لكن الأهم هو الدور الذى باتت تضطلع به هذه المجموعات والمؤسسات المالية الجديدة فى إدارة الجدال الدائر حول إصلاح النظام الاقتصادى والمالى العالمي، والنقاش الكبير الدائر حول ضرورة استحداث أنظمة مدفوعات دولية جديدة، وغيرها. إن ظهور هذه المجموعات الدولية الجديدة يعبر فى الحقيقة عن عملية تحول سلمى عميق وتدريجى من نظام «بريتون وودز»، الذى اتسم بدرجة كبيرة من المركزية والتحيز لمصالح الموجة الأولى من الدول الصناعية الغربية التى ظهرت عقب الحرب العالمية الثانية، إلى نظام شبكى يتسم بدرجة أكبر من التعقيد والتعددية، ونشر عملية صنع القرار، ودرجة أكبر من التعبير والتمثيل لمصالح القوى الصاعدة والناشئة. كل ذلك دون أى مواجهات عنيفة داخل النظام العالمى باستثناء بعض المحاولات الغربية لإجهاض هذا التحول.

وتأتى أهمية الاندماج المصرى المبكر فى هذه العملية أنه سمح لها بالمشاركة فى عملية بناء وتشكيل النظام الاقتصادى والمالى العالمى الجديد، وهو ما يعطى مصر ميزات نسبية كبيرة لم تكن لتتحقق فى حالة عزوف مصر عن هذه المشاركة أو تأخرها. ويزيد من أهمية هذا التوجه المصرى أن هذه المجموعات تمثل الساحة الرئيسية لعمل الاقتصادات الصاعدة والناشئة، والتى تمثل القوى الوسطى والصاعدة داخل النظام العالمي، الأمر الذى يعنى اعترافا واضحا من جانب هذه القوى بما تمتلكه مصر والاقتصاد المصرى من مقومات مهمة تؤهله للالتحاق بركب الاقتصادات الناشئة. هذه المجموعات الدولية تقرأ بدقة مقومات الاقتصاد المصري، وتَخْضَع عملية اتخاذ القرار داخلها لحسابات اقتصادية ومالية دقيقة حول فرص التنمية والنمو الاقتصادى لدى الدول الأعضاء والمرشحة للعضوية.

من ناحية أخرى، فإن اندماج مصر فى هذه المجموعات الدولية الجديدة ينطوى على مكاسب اقتصادية ومالية ضخمة. يرجع ذلك ليس فقط إلى القدرات الاقتصادية والمالية لهذه المجموعات ومؤسساتها المالية، لكنه يرجع أيضا إلى عدد من السمات التى تميز هذه المؤسسات بالمقارنة بمؤسسات بريتون وودز. أولها، الاهتمام الذى توليه المجموعات الدولية الجديدة، ومؤسساتها المالية، لقضية التنمية بشكل عام، وتمويل الاستثمار فى البنية التحتية بشكل خاص، بجانب برامج مكافحة الفقر والتنمية البشرية، وذلك على العكس من المؤسسات المالية الدولية التقليدية التى ركزت تاريخيا على قضية تمويل برامج الإصلاح الاقتصادى والمالي.

ثانيها، يتعلق بالفلسفة التى تقوم عليها هذه المجموعات ومؤسساتها المالية؛ فعلى العكس من استناد مؤسسات بريتون وودز إلى مبادئ «توافق واشنطن» Washington Consensus، الذى مثل أحد الضوابط الحاكمة لعلاقة هذه المؤسسات مع الاقتصادات النامية، والتى تركز على مجموعة من المبادئ الحاكمة لبرامج الإصلاح الاقتصادى والمالي، فإن المؤسسات الجديدة لا تلتزم بمكونات هذا «التوافق»، وتؤكد فى المقابل أولوية الاستثمار فى البنية التحتية، وأولوية الاقتصاد الحقيقي، كوسائل رئيسة للنمو الاقتصادى وخلق التجارة الجديدة. كما تؤكد عدم وجود نموذج تنموى واحد قابل للتعميم، وأنه لا توجد وصفة واحدة لمعالجة مشكلات التنمية. كما ترفض هذه المؤسسات الجديدة أى حديث عن مشروطية سياسية أو اقتصادية. فى المجمل، فإن هذه المجموعات ومؤسساتها المالية تعمل وفقًا لشروط أفضل بكثير بالنسبة للاقتصادات الناشئة والصاعدة، وحتى النامية، بالمقارنة بمؤسسات بريتون وودز.

يُحْسَبْ لصانع القرار أيضا أنه فى الوقت الذى يلتحق بهذه العملية المهمة داخل الاقتصاد العالمي، فإنه لا يدير ذلك فى إطار صراعى مع المجموعات والمؤسسات المالية التقليدية، بل مازالت علاقات مصر مع هذه المجموعات جميعها ــ القديمة والجديدة ــ تتسم بالتوازن، والعمل على تعظيم فرص استفادة الاقتصاد المصرى منها جميعا، ما يؤكد صواب القرار المصرى بأن المجموعات الدولية الجديدة تمثل عامل استقرار مهما داخل النظام العالمي. فمن ناحية، تمثل هذه المجموعات خطوة إضافية نحو تعميق البناء الشبكى داخل النظام العالمي، وتأخذ هذا النظام بعيدًا عن حالة هيمنة دولة بعينها. من ناحية ثانية، تلعب هذه المجموعات دورًا مهمًا فى تعميق نمط التفاعلات التبادلية داخل النظام، وتأخذه بعيدًا عن الطابع الهيراركى الذى ساد عقب الحرب العالمية الثانية. من ناحية ثالثة، فإن هذه المجموعات تمثل خطوة مهمة نحو التوزيع العادل للثروات والمنافع داخل النظام الاقتصادى العالمي، وإفساح دور أكبر للقوى والاقتصادات الصاعدة والناشئة للتعبير عن مصالحها داخله.

 

إن هذه المجموعات تمثل الساحة الرئيسية لعمل الاقتصادات الصاعدة والناشئة، والتى تمثل القوى الوسطى والصاعدة داخل النظام العالمي، الأمر الذى يعنى اعترافا واضحا من جانب هذه القوى بما تمتلكه مصر والاقتصاد المصرى من مقومات مهمة تؤهله للالتحاق بركب الاقتصادات الناشئة.

[email protected]
لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات

رابط دائم: