استكمالا لما تناولناه فى المقال السابق، والذى أكدنا فيه ان اصلاح سياسة الدعم الحالية يجب ان يستهدف الوصول الى الفقراء ومحدودى الدخل ومنع غيرهم من الحصول عليه، وليس علاج عجز الموازنة كما يتصور البعض. من هذا المنطلق يفضل البعض الدعم النقدى باعتباره يضمن وصول الدعم الى مستحقيه، ويرى هؤلاء انه لو استفاد الفقراء من الأموال الموجهة للدعم على الوجه الأكمل لانخفض الفقر بمعدل يفوق أثر زيادة معدل نمو الناتج بنسبة كبيرة. واختفاء السوق السوداء للسلع وترشيد الاستهلاك مع ضمان عمل الأسواق بصورة سليمة. وضمان وصول الدعم الى مستحقيه دون تسريب، وإعطاء المواطن الحرية فى اختيار السلع المناسبة وفقا لترتيب أولوياته، كما انه يؤدى الى تقليل الهدر فى استيراد القمح مما يخفف من العبء على الدولة.
وقبل ان نحاول معرفة مدى صحة هذه الاطروحات تجدر الإشارة الى ان هذا النوع من الدعم لا يصلح إلا فى حالة السلع التموينية ورغيف الخبز، اما الأنواع الأخرى للدعم مثل دعم الادوية وألبان الأطفال ودعم نقل الركاب ودعم التأمين الصحى ودعم المزارعين وتنمية الصعيد فضلا عن الدعم غير المباشر والذى يرتبط بالعلاقة بين الخزانة العامة والشركات والهيئات الاقتصادية والعلاقات التشابكية فيما بينهما مثل الكهرباء والبترول، او الكيانات التى تقدم خدمات مدعومة، باقل من تكلفة انتاجها مما يؤثر على نتائج الاعمال ويقلل العوائد المحولة للخزانة العامة والتى تتحمل بخسائرها ما يرهقها، وكلها لا يصلح لها الدعم النقدي.
مع ملاحظة ان دعم الخبز والسلع التموينية قد وصل الى 133.3 مليار جنيه فى ختامى مبدئى عام 2023 منها 97.1 مليار لدعم رغيف الخبز لنحو 69.5 مليون مواطن و36.2 مليار جنيه لدعم بطاقات التموين لنحو 61.4 مليون فرد. ورغم ثبات المبلغ المنصرف للبطاقة بخمسين جنيها للفرد الواحد لعدد أربعة افراد شهريا ومازاد على ذلك يحصل على 25 جنيها، منذ موازنة 2018 الا ان أسعار السلع التموينية فى زيادة مستمرة منذ ذلك التاريخ حيث ارتفع السكر التموينى من 8.5 جنيه للكيلو عام 2021 الى 12.6 جنيه عام 2024 وبالمثل الزيت التموينى ارتفع من 20 جنيها للتر إلى 30 جنيها خلال نفس الفترة، الأمر الذى يشير الى تناقص الكميات المخصصة للبطاقات التموينية.
تأتى أهمية هذه المسألة فى ضوء ما أشار اليه تقرير البنك الدولى عن مراجعة الإنفاق العام 2022 الى ان دعم السلع الغذائية الاعلى تأثيرا فى الحد من الفقر، وهو ما ذهب إليه بحث الدخل والانفاق عن العام 2020/2019 الى ان دعم الغذاء قد أسهم بخفض نسبة الفقر بنحو 3% ولو اخذنا بالحسبان التطورات التى حدثت بعد هذا التاريخ والتى اثرت بشدة على أوضاع الفقراء لزادت هذه النسبة بصورة كبيرة. خاصة مع ارتفاع معدل انتشار نقص الغذاء، كما ان سوء التغذية كان هو السبب الرئيسى فى وفيات ثلثى الأطفال ناهيك عن ارتفاع معدلات نحافة الأطفال ونقص الوزن والتقزم، نتيجة لوقوع هؤلاء فى مصيدة الفقر فمع محدودية الإمكانية فى الاستفادة من الخدمات الاجتماعية الأساسية وعدم القدرة على الوصول الى الغذاء الصحى والتعليم الجيد.
ولكن مشكلة الدعم النقدى الاساسية تكمن فى كيفية تحديد الفئات المستحقة للدعم والمعايير التى يمكن استخدامه فى سبيل تحقيق ذلك. مع ملاحظة ان 42.4% من الفقراء يعملون بقطاع الخدمات ونحو 30% فى الزراعة و16% فى قطاع التشييد والبناء و12% فى الصناعة وهى فئات معظمها لم يتمكن من الاستفادة من شبكات الضمان الاجتماعى الحالى بما يجعلها اكثر هشاشة وعرضة للمزيد من الافقار.
وهنا يرى البعض إن أفضل هذه السبل هى استخدام قيمة الإنفاق على الكهرباء كمؤشر لمستوى إنفاق الأسرة، ولكن هذا المؤشر عيوبه كثيرة منها إن الأسر الأكثر فقرا قد لا ترتبط بشبكة الكهرباء العامة بالبلاد كما هى الحال فى العشوائيات حاليا، كما إن هذا المؤشر لا يعكس الاستهلاك الحقيقى للأسر التى لديها أكثر من مسكن، ناهيك عن انه لا يأخذ بعين الاعتبار أثر حجم الأسرة على قيمة الإنفاق على الكهرباء. بينما يفضل البعض الآخر اللجوء إلى معايير الأسر التى تحصل على الضمان الاجتماعى ومعاش تكافل وكرامة اواى نوع آخر من أنواع المساعدات الاجتماعية التى تقدمها الدولة، وهذا أيضا معيار مضلل لأسباب عديدة منها إن هناك شرائح كبيرة فى المجتمع لا تدخل ضمن كافة هذه النظم، وهكذا فان صعوبة تحديد الفئات المستحقة سيقف حجر عثرة أمام محاولة تطبيق الدعم النقدي.
والمشكلة الثانية والاهم تكمن فى كيفية الوصول إلى المستحقين للدعم،فى ظل الأوضاع السائدة بالمجتمع المصري. فضلا عن ان ذلك يتطلب بالضرورة انشاء جهاز جديد لمتابعة هذه الحالات، او على الاقل تطوير وزارة التضامن الاجتماعى لجعلها قادرة على التصدى لهذه المسالة مع مايعنيه ذلك من اعباء ادارية جديدة وشديدة التعقيد والحساسية.
أما المشكلة الثالثة فهى تكمن فى كيفية تحديد المبلغ المستحق لكل أسرة، بمعنى آخر ما هو مقدار المبلغ الذى سيصرف لهم ووفقا لأى أسس واعتبارات؟ وهل سيظل هذا المبلغ ثابتا على مدار سنوات معينة ام انه سيتحرك سنويا وفقا لمعدلات الارتفاع فى الاسعار؟ وهو ما يتطلب بالضرورة العمل على تعديل الرقم القياسى لأسعار المستهلكين وتصحيح الأخطاء التى تشوبه حتى يصبح أكثر قدرة على التعبير عن الواقع الفعلى المعاش. ناهيك عن الآثار الأخرى المتوقعة لهذا النظام مثل التضخم الجامح المتوقع جراء هذه السياسة، ليس فقط كنتيجة لذهاب الأموال إلى أفراد يرتفع لديهم الميل للاستهلاك، ولكن أيضا لطبيعة التشابكات السعرية فى المجتمع الأمر الذى سيؤدى إلى المزيد من الارتفاعات فى الأسعار بالمجتمع ككل ولن يقتصر على السلع المدعمة وحدها، وبالتالى زيادة مبالغ الدعم وليس العكس. خاصة فى ظل الأوضاع السائدة بالأسواق وسيطرة الاحتكارات عليها.
لكل هذه الأسباب وغيرها يصبح من الضرورى العمل على تهيئة البيئة الاقتصادية والاجتماعية، وإصلاح الأسواق، قبل التفكير فى التحول الى الدعم النقدى وإعطاء الأولوية لإبطاء معدل التضخم وتوفير شبكة امان اجتماعى موجهة بدقة لحماية الاسر الفقيرة والأكثر ضعفا.
لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالى رابط دائم: