الحديث عن أزمة الديمقراطية ليس جديدا، لكنها أزمة باتت أكثر وضوحا خلال العقد الأخير، على نحو يدفع إلى مراجعة العديد من المتلازمات التى تكرست عبر الأدبيات الغربية، ومالت الكثير من الكتابات فى دول العالم النامى إلى التماهى معها، والتسليم بمقولاتها وفرضياتها والدفاع عنها. ولا يعنى ذلك بالتأكيد رفض الديمقراطية كنظام أو ثقافة، لكن الإشكال هو ما آلت إليه الديمقراطيات الحالية، خاصة فى مواطن تطورها، وما تبع ذلك من اهتزاز الكثير من الافتراضات والمتلازمات التى سعى المنظرون الغربيون إلى تطويرها والدفاع عنها والترويج لها لعقود طويلة.
أبرز هذه المتلازمات هى تلك التى تم ترويجها حول العلاقة بين الديمقراطية والأمن العالمي، وذهبت إلى أن انتشار الديمقراطيات فى العالم سيعزز الأمن العالمي. واستندت تلك المتلازمة على افتراضين رئيسيين. أولهما، أن الأنظمة الديمقراطية تتبنى سياسات خارجية سلمية وتعاونية، انطلاقا من تعقد عملية صنع القرار وخضوعها للمراقبة والتوازن بين السلطات، وميل صانع القرار إلى تجنب الحروب لاعتبارات تتعلق بصعوبة تمرير التمويل اللازم للحرب داخل المؤسسات التشريعية، أو تجنبا للحظة الحساب عبر صناديق الانتخابات، خاصة فى حالة خسارة الحرب أو عدم تحقيق أهدافها المعلنة. الافتراض الثاني، «أن الديمقراطيات لا تتحارب مع بعضها البعض»، وهو الافتراض الذى روجت له نظرية «السلام الديمقراطي»، ما يعنى أن انتشار الديمقراطيات يقلل فرص وقوع الحروب. لقد ثبت فى الواقع العملى ضعف هذه الافتراضات.
بداية، لا يمكن إغفال «عنصرية» نظرية السلام الديمقراطي؛ فقد انطلقت النظرية من افتراض أن طبيعة النظام السياسي، أو الديمقراطية -وفق التجربة والنموذج الغربي- هى المتغير أو المُحَدِدْ الوحيد فى قرار الحرب، وهو افتراض غير صحيح؛ فقد ثبت من الناحية العملية أن الأنظمة غير الديمقراطية -وفق المعايير الغربية- هى أنظمة تُقدِرْ أيضا خطورة قرار الحرب، وتُخْضِعْ هذا القرار لحسابات معقدة لا ترتبط بالضرورة بطبيعة النظام السياسى أو بالحسابات الانتخابية. هناك أمثلة عديدة على ذلك، أبرزها النظام الكورى الشمالي، الذى يأتى -وفقا للمعايير الغربية- فى مقدمة الأنظمة السلطوية المغلقة، لكنه مع ذلك أثبت قدرة كبيرة على إخضاع قرار الحرب واستخدام القوة العسكرية خارج حدوده للحسابات العقلانية، حتى مع امتلاكه السلاح النووى وتطوير قدراته الصاروخية وشعوره بالتهديد الشديد من جانب الولايات المتحدة وحلفائها. كل ذلك دون أن ينفى توظيفه المحسوب بدقة للقوة العسكرية وعلاقاته الخارجية بالشكل الذى يحمى بقاءه وأمنه القومي. الأمر نفسه بالنسبة للصين، التى تُصنَّفْ هى الأخرى -حسب المعايير الغربية- ضمن الدول غير الديمقراطية، ومع ذلك فقد أبدت استعدادا كبيرا لتجاوز العديد من الأزمات الدولية، واستعدادا لعدم التورط فى سياسة الأحلاف العسكرية، وتبنى سياسة منضبطة فى نشر القواعد العسكرية الخارجية...إلخ.
فى المقابل، فإن الديمقراطيات الكبرى باتت هى المسئول الرئيسى عن زعزعة الأمن العالمى من خلال توسعها فى عدد من السياسات الدولية، بدءا من إحياء سياسة التحالفات العسكرية والأمنية، وتدشين موجة جديدة من سباقات التسلح، وهندسة مسارح جديدة للصراع العالمي، وتمويل الحروب بالوكالة، وتهميش الأمم المتحدة والقانون الدولى والقانون الدولى الإنساني، وتسييس قيم إنسانية مثل حقوق الإنسان... إلخ، على نحو أدى إلى إطالة أمد الصراعات والحروب واتساع رقعتها بشكل خطير. واللافت للنظر أن بعض هذه السياسات يتم من خلال دعم أنظمة تُصَنَّفْ -وفق المعايير الغربية- على أنها أنظمة ديمقراطية. ولا ينسحب هذا الاستنتاج على المستوى السياسى والأمنى، لكنه ينسحب كذلك على المستوى الاقتصادى، من خلال توسع هذه الديمقراطيات فى سياسة العقوبات الاقتصادية خارج النظام متعدد الأطراف، ورفع معدلات الفائدة بشكل مبالغ فيه، وتسييس القضايا الاقتصادية والتكنولوجية، الأمر الذى أضر باستقرار النظام الاقتصادى العالمى ومجموعة المبادئ المستقرة التى يقوم عليها هذا النظام، التى باتت محل توافق بين معظم دول العالم تقريبا، الديمقراطية أو غير الديمقراطية، وما تبع ذلك من إيجاد حالة من التضخم وركود الاقتصاد العالمي، واضطراب سلاسل الإمداد...إلخ.
هذه السياسات التى أضرت بالأمن العالمى لم تأت جميعها فى إطار صراع هذه «الديمقراطيات» مع أنظمة غير ديمقراطية -وفقا للمعايير الغربية- لكنها جاءت فى معظمها كنتيجة لصراعات سياسية وانتخابية داخل هذه الديمقراطيات -بالمعايير الغربية أيضا- ودفعت العديد من الأقاليم ثمن هذه الصراعات الداخلية. على سبيل المثال، لا يمكن فهم إطالة أمد العدوان الإسرائيلى على غزة، ثم لبنان، بمعزل عن طبيعة النظام السياسى لدولة الاحتلال، الذى يُصَنَّفْ -حسب المعايير الغربية- ضمن الأنظمة الديمقراطية. الأمر نفسه بالنسبة للدعم الأمريكى والغربى المُفْرِط لهذا العدوان، الذى لا ينفصل أيضا عن الحسابات الانتخابية للنخب الحاكمة فى هذه الدول. الديمقراطية نفسها -وفقا للتعريف والمعايير الغربية- أصبحت عاملا مُحفزَا لاستمرار الحروب والصراعات، ومن ثم الإضرار بالأمن العالمي. القوى الصاعدة داخل النظام العالمى تضررت هى الأخرى بفعل هذه الممارسات، إذ فُرِضَ عليها سباق تسلح، بغرض محاولة إجهاضها، الأمر الذى قد يجر النظام العالمى إلى سلسلة أخرى من الصراعات والحروب. هكذا، فإن الديمقراطيات الغربية نفسها باتت تلعب دورا سلبيا فى إشعال وتمويل الصراعات والحروب، وإطالة أمد هذه الحروب، حتى بافتراض بدئها بقرارات وحسابات بعيدة عن هذه «الديمقراطيات».
هذا الواقع يثير سؤالا آخر حول الأزمة الأخلاقية للديمقراطيات الغربية، أو الديمقراطية نفسها كنظام سياسي، بعدما بدا تراجع القيم الأخلاقية لدى النخب السياسية الحاكمة فى هذه «الديمقراطيات»، وما بدا من ضعف صدق مقولات النظريات الغربية حول علاقة الديمقراطية بالأمن العالمي. ومن المتوقع أن تتعمق هذه الأزمة الأخلاقية خلال العقود القادمة لاعتبارات تتعلق بالتطورات السريعة فى مجال توظيف الذكاء الاصطناعى فى إدارة الصراعات والحروب بكل ما يعنيه ذلك من أزمات أخلاقية متوقعة.
التحليل السابق يثير استنتاجين مهمين. الأول، أن العلاقة بين النظام السياسى والأمن العالمى لم تعد ترتبط بطبيعة النظام السياسي، أو درجة ديمقراطية النظام، بقدر ما ترتبط بمتغيرات أخرى مهمة مثل طبيعة النظام الثقافى السائد، وطبيعة النخب الحاكمة. أهمية هذا الاستنتاج أنه يؤسس لدحض العديد من الافتراضات والنظريات المتحيزة للثقافة الغربية، أو بالأحرى الديمقراطيات بمعناها ومعاييرها الغربية، التى رأت أن هذه الأنظمة فقط هى الضامنة لاستقرار الأمن العالمى وهى الضامنة لأخلاقية العلاقات الدولية. الاستنتاج الثاني، أن هناك مسئولية كبيرة على القوى الصاعدة والقوى الوسطى داخل النظام العالمى للحفاظ على الأمن العالمى وأخلاقية العلاقات الدولية، وهى مسئولية ليست فقط كبيرة فى هذه اللحظة المعقدة فى تطور النظام العالمي، لكنها قد تكون مكلفة أيضا.الديمقراطيات الكبرى باتت هى المسئول الرئيسى عن زعزعة الأمن العالمى من خلال توسعها فى عدد من السياسات الدولية، بدءا من إحياء سياسة التحالفات العسكرية والأمنية، وتدشين موجة جديدة من سباقات التسلح، وهندسة مسارح جديدة للصراع العالمي.
[email protected] لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات رابط دائم: