طُرِحَتْ منذ عقود عدة مقولات حول «القرن الآسيوى» أو «الحقبة الآسيوية»، وكان المقصود هنا أن القرن الحادى والعشرين سيكون «قرنا آسيويا»، وكان المفهوم ضمنا أيضا أن هذا القرن سيشهد صعودا للقوى الآسيوية إلى الحد الذى سينتج عنه إعادة بناء موازين القوى العالمية وإزاحة القوى الغربية من على قمة النظام العالمي. هذه المقولات استندت فى حينه بالأساس إلى عدد من المؤشرات. أولها، هو معدلات النمو الاقتصادى المستدامة التى حققتها الاقتصادات الآسيوية التى حققتها معظم هذه الاقتصادات خلال النصف الثانى من القرن العشرين، وما ارتبط بها لاحقا من معدلات إنفاق عسكري. المؤشر الثاني، هو علاقات التكامل والاعتماد الاقتصادى المتبادل بين الاقتصادات الآسيوية، التى انتظمت حول عدد من الأطر الإقليمية، خاصة رابطة آسيان (تأسس سنة 1967)، التى تولت إدارة عملية التكامل الاقتصادى بين دول جنوب شرقى آسيا، ومنتدى آبك (تأسس سنة 1989)، الذى تولى إدارة عملية التكامل وتوفير الشروط الأساسية لاستدامة النمو الاقتصادى للاقتصادات والأقاليم الآسيوية. المؤشر الثالث، هو الفلسفة التى حكمت العلاقات الآسيوية ــ الآسيوية، إذ قامت هذه العلاقات، بالإضافة إلى تعميق التكامل والاعتماد الاقتصادى المتبادل، على تحييد النزاعات التاريخية البينية، سواء كانت نزاعات حدودية (مثل النزاع فى بحر الصين الجنوبى أو الشرقى، والنزاع الحدودى بين الصين والهند، وغيرهما)، أو تحييد التاريخ السلبى فيما بينها (خاصة خبرة الاحتلال اليابانى لعدد من الدول الآسيوية)، أو المشكلات التاريخية (مشكلة تايوان). المؤشر الرابع، نجاح الاقتصادات الآسيوية فى تطوير عدد من النماذج/ الخبرات المناظرة للنماذج/ للخبرات الغربية، سواء النماذج التنموية (نموذج الدولة التنموية، العلاقة بين التنمية والديمقراطية.. إلخ) أو النموذج الآسيوى فى التكامل الاقتصادى وتحرير التجارة (الإقليمية المفتوحة فى مقابل نموذج الإقليمية المغلقة كما قدمته الخبرة الأوروبية).
هذه المؤشرات/ السمات الأربع قدمت أساسا قويا للحديث عن «قرن آسيوي» بالمعنى السابق. فمن ناحية، فإن معدلات النمو الاقتصادى المستدامة، وغيرها من المؤشرات الاقتصادية، أسست لبناء توقعات حول تغييرات مماثلة فى توزيع القدرات الاقتصادية لمصلحة الاقتصادات الآسيوية، وما يستتبعه ذلك من تغيير فى موازين وخرائط النفوذ السياسى. من ناحية ثانية، فإن استقرار علاقات التكامل الاقتصادى والاعتماد المتبادل، وتحييد النزاعات التاريخية الموروثة عن مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وفر أساسا قويا للحديث عن «قوة آسيوية» أو «مركب آسيوى» متماسك ومنسجم، مقابل «المركب الغربى». من ناحية ثالثة، وامتدادا لما سبق، فإن «النماذج» الآسيوية السابق الإشارة إليها، وفرت أساسا مماثلا للحديث عن التحول من «حقبة غربية» إلى «حقبة آسيوية»، أو ما يمكن وصفه بـ «تحول فى النموذج» paradigm shift، خاصة أن الحديث عن «نماذج آسيوية» ناجحة مثل أساسا لانتشار ومحاكاة دولية لهذه النماذج، خاصة داخل الدول والاقتصادات النامية، ومن ثم كسر احتكار النماذج الغربية فى مجالات عدة، بكل ما يعينه ذلك من أبعاد سياسية وثقافية.
العديد من هذه التوقعات تحققت بالفعل، فقد ساهمت استدامة عملية التنمية والنمو الاقتصادى فى تغيرات كبيرة فى موازين القوة العالمية على المستوى الاقتصادى (من ذلك على سبيل المثال: تغير القوة التصويتية داخل بعض مؤسسات بريتون وودز، واستحداث مجموعات اقتصادية ومؤسسات مالية جديدة تعكس التغير الحادث فى موازين القوى مثل «بريكس» و«بنك التنمية الجديد» NDB، والبنك الآسيوى فى الاستثمار فى البنية التحتية AIIB، وغيرها). كما تغيرت خرائط النفوذ العالمية لمصلحة قوة آسيوية محددة، هى الصين، على حساب مساحات وخرائط النفوذ الأمريكية والأوروبية. والأهم هو اتجاه عدد من القوى الآسيوية إلى إدارة مشروعات للتحول إلى قوى عسكرية بحرية عالمية.
لكن مع أهمية هذه التحولات، فإن الأمور لم تسر فى اتجاه اكتمال التوقعات السابقة، على نحو عمق من الشكوك حول مقولة «القرن الآسيوى». فمن ناحية، لم تسر العلاقات الآسيوية ــ الآسيوية على المستويين السياسى والأمنى فى اتجاه متكامل ومنسجم مع علاقات التكامل الاقتصادى والاعتماد المتبادل؛ فقد أخذت العلاقات السياسية والأمنية اتجاها مغايرا لنمط العلاقات الاقتصادية، كما عادت الخلافات والنزاعات التاريخية مرة أخرى لتصبح أحد مصادر التهديد وعدم الاستقرار. كذلك، أصبحت سباقات التسلح إحدى سمات العلاقات الآسيوية ــ الآسيوية. أضف إلى ذلك عودة الأحلاف العسكرية والأمنية بقوة، وبدء تشكل «المحاور الدولية». هذه التحولات بدأت تؤتى تأثيراتها على العلاقات الاقتصادية والتجارية الآسيوية البينية، على نحو، ما كشف عنه تراجع مشروعات كبيرة لتحرير التجارة والاستثمار، كان أبرزها إعلان الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب فى 2017 انسحاب بلاده من «اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ» Trans-Pacific Partnership Agreement الذى كان قد تم توقيعه فى 2015 بين اثنى عشرة دولة من دول آبك، وبدء التفاوض على صيغة جديدة تحت اسم «الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ» Comprehensive and Progressive Agreement for Trans-Pacific Partnership لكن الأهم أنها اتسمت بطابع «تمييزى» من خلال استبعاد قوى آسيوية بعينها من هذا المشروع، ودفاع الصين، فى المقابل، عن نسختها الخاصة لتعميق التكامل الاقتصادى والتجارى بين الاقتصادات الآسيوية من خلال مشروع «الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة» Regional Comprehensive Economic Regional Partnership. هكذا، تحولت مشروعات التكامل الاقتصادى وتحرير التجارة إلى مجال للتنافس والصراع.
هذه التطورات شككت، كما سبق القول، فى مقولة «القرن الآسيوى». لكن الأهم ما يثيره ذلك من تساؤلات حول العلاقة بين قدرة إقليم ما على حماية نفسه وحماية تفاعلاته وعلاقاته البينية من تداعيات الصراع المرتبط بعملية الانتقال داخل النظام العالمي؛ إذ لايمكن فهم كل هذه التحولات السلبية بعيدا عن السياسات الأمريكية، التى لعبت دورا بارزا فى تغيير نمط التفاعلات الآسيوية ــ الآسيوية فى اتجاه تعزيز التفاعلات الصراعية، من ناحية، وضرب فكرة «الجماعة الآسيوية» Asian Community أو «المُرَكّبْ الآسيوى» إن جاز التعبير. أحد الافتراضات المهمة التى طرحها العديد من أساتذة العلاقات الدولية فى تفسير استقرار الأقاليم الآسيوية لعقود طويلة هو قدرة القوى الإقليمية فى هذه الأقاليم على وضع حدود واضحة بين النظام العالمى والأنظمة الإقليمية، بما يعنيه ذلك من وضع سقوف لتدخل القوى الدولية فى الأنظمة الإقليمية الآسيوية، لكن على ما يبدو فإن هذه السقوف قد اهتزت بشكل كبير خلال الفترة الأخيرة. هناك أمثلة كثيرة على ذلك.
لايعنى ذلك بالتأكيد انتهاء مقولة «الحقبة الآسيوية»، ولايعنى أننا على أعتاب «أفول آسيوى»، خاصة إذا أخذنا فى الاعتبار أن عملية انتقال وتحول النظام العالمى تتسم بالتعقيد ولا تسير وفق خط مستقيم. لكن الثابت أن مقولة «الجماعة الآسيوية» قد انتهت إلى حد كبير، ما لم تحدث تغيرات جوهرية فى العلاقة مع الولايات المتحدة.
هذه الخبرة الآسيوية تحتاج إلى دراسة واستلهام الدروس من جانب الأقاليم الأخرى، وفى مقدمتها الشرق الأوسط، رغم الفروقات الكبيرة فى الحالتين.
لم تسر العلاقات الآسيوية ــ الآسيوية على المستويين السياسى والأمنى فى اتجاه متكامل ومنسجم مع علاقات التكامل الاقتصادى والاعتماد المتبادل؛ فقد أخذت العلاقات السياسية والأمنية اتجاها مغايرا لنمط العلاقات الاقتصادية، كما عادت الخلافات والنزاعات التاريخية مرة أخرى لتصبح أحد مصادر التهديد وعدم الاستقرار
[email protected] لمزيد من مقالات د. محمد فايز فرحات رابط دائم: