رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

أوديب فى الطائرة وتحت المظلة «1-2»

«لماذا الرمزية؟. إن الغموض فى العمل غالبا ما يحدث كرد فعل للحياة. هناك سنين مرت بنا لا تنسى كان الإنسان فيها لا شيء. وظهرت آثار تلك السنوات فى كتاباتي. ساد الرمز كتاباتى لأسباب سياسية. الرمزية تلك اسمها الأدب التحايلى والرمز الحقيقى ينبع من موضوع يحتاج الى الرمز، وفى تلك الفترة لم أكن أكتب سوى بتلك الرمزية». من مقابلة مع نجيب محفوظ

حلت علينا ذكرى رحيل نجيب محفوظ الثامنة عشرة فى 30 أغسطس الماضى عليه رحمة الله. فى احتفالى بتلك المناسبة سأحاول المقارنة بين قصته القصيرة «تحت المظلة» ورواية محمد سلماوى «أوديب فى الطائرة». كتبها محفوظ فى أكتوبر 1967, ليسجل فيها لحظة وجع شديد أصاب الجميع كرد فعل لنكسة 67. وصفها بقوله: «إننى فى حياتى كلها, قبل ذلك اليوم أو بعده, لم يحدث لى ذهول وانكسار فى النفس مثلما حدث فى تلك اللحظة وما تلاها, حيث أصابتنى حالة فظيعة من الحزن والاكتئاب وعدم التصديق. كنت كمن يعيش فى حلم جميل, وفجأة سقط من فراشه على أرض صلبة خشنة». لقد نقل لنا محفوظ كل تلك الآلام والفوضى العارمة والعبثية التى أصابتنا.صدرت «تحت المظلة» عام 1967, عن دار مصر. كانت الهزيمة هى القوة الدافعة لمحفوظ ليكتب قصته. للأسف لم تنل تلك القصة القصيرة الفذة نصيبها من الاهتمام والنقد والتمحيص والدراسات. شخص فيها المشهد ونمذجه كأنه مهندس، وشخص فيها المرض المجتمعى كأنه طبيب، وكتبها بأسلوب عميق كأنه شاعر وفنان وأديب وفيلسوف. القصة نوع من العبث الذى عرفه محفوظ فى روايته الرمزية الأخري- ثرثرة فوق النيل: «بأنه فقدان المعنى وإنهيار الإيمان بأى شيء والسير فى الحياة بدافع من الضرورة وحدها ودون اقتناع وبلا أمل حقيقي, وينعكس ذلك على الشخصية فى صورة انحلال وسلبية، وتمسى البطولة خرافة ويستوى الخير والشر وتموت القيم وتنتهى الحضارة». يقص علينا محفوظ مجموعة من الحوادث والمشاهد الغريبة التى أصابت المتجمعين تحت مظلة الأوتوبيس. كانت البداية مشاهدتهم لمطاردة لص من قبل مجموعة من الناس الذين تمكنوا من القبض عليه وظلوا يضربونه ضربا مبرحا، وهو الأمر الذى جعلهم يستغربون الوضع, فهناك شرطى واقف فى مدخل العمارة يتفرج ولا يتدخل وهو الأمر الذى أدهشهم وجعل بعضهم يقول: ستقع جريمة أشد من السرقة, انظروا الى الشرطى الواقف يدير وجهه الى الناحية الأخرى ويتفرج ولا يتدخل وكأن الأمر لا يعنيه. بدأوا يستنكرون ويتساءلون تحت المظلة: كيف لا يتحرك الشرطى نتيجة ما يحدث، وقال آخرون منهم لابد أن ما يحدث ليس إلا منظر تصوير سينمائي. تجرد اللص من ملابسه وبدأ يخطب فى الناس وهو عار وبدأ مطاردوه فى التصفيق له بتصفيقات إيقاعية وكأنهم فى حالة نشوة وإعجاب بخطبته. فجأة تظهر سيارتان تسيران بسرعات جنونية من ناحية الميدان مما أدى الى تصادمهما وانقلابهما معا واشتعال النيران فيهما وخروج أحد السائقين وموته بجانب الحطام. ورغم بشاعة الحادث فإن أحدا من الموجودين لم يبال بالأمر. وبدأ الموجودون تحت المظلة فى الحديث والاستنكار لما يحدث وقال بعضهم إن ما حدث هو كارثة حقيقية وأن الشرطى لا يريد أن يتحرك, وقال آخرون إن لم يكن هذا منظرا تصويريا فهو الجنون وأن ما يحدث ليس إلا منظرا سينمائيا وما الشرطى إلا أحد المشاركين الذى ينتظر دوره، وحادث السيارتين ليس إلا براعة فنية. عقب ذلك ظهر رجل فى إحدى نوافذ عمارة مواجهة للمحطة كامل الزى فصفر تصفيرا متقطعا وفى الحال فتحت نافذة أخرى فى نفس العمارة فظهرت بها امرأة فاستجابت لصفيره بإشارة من رأسها. غادرا العمارة معا وسارا متشابكى الذراعين بلا مبالاة تحت المطر ووقفا عند السيارتين المهشمتين وتبادلا كلمة وأخذا فى التجرد من ملابسهما ومارسا الرذيلة. مرة أخرى يدور حوار تحت المظلة بأن ما يحدث فضيحة، فإن لم يكن تصويرا فهو فضيحة، وإن يكن حقيقة فهو جنون وكل ما فعله الشرطى هو تدخين سيجارة. تلا ذلك مجيء قافلة من ناحية الجنوب يقودها رجال ونساء من البدو لتعسكر على مقربة من حلقة اللص الراقص حيث شدت الجمال الى أسوار البيوت ونصبت الخيام ثم تفرقوا، فمنهم من تناول طعامه أو راح يحتسى الشاي. عقب ذلك جاءت من الشمال مجموعة من السيارات السياحية محملة بالخواجات توقفت فيما وراء حلقة اللص فتفرقوا جماعات تستطلع المكان فى نهم دون مبالاة بالرقص أو الحب أو الموت أو المطر. ثم أقبل عمال بناء كثيرون تتبعهم لوريات محملة بمواد وأدوات البناء وبسرعة مذهلة شيدوا قبرا رائعا وأقاموا سريرا كبيرا فغطوه بالملاءات وزينوا قوائمه بالورد ومضوا الى حطام السيارتين واستخرجوا الجثث المهشمة والمحترقة ثم رصوا الجثث فوق السرير وتحولوا الى العاشقين فحملوهما معا فأودعوهما القبرثم سدوا فوهته وأهالوا عليهما التراب ثم غادروا المكان بسرعة كبيرة. دار بعدها حديث بين المتجمعين تحت المظلة: كأننا فى حلم مخيف ويجدر بنا أن نذهب. فى أثناء حديثهم تربع فوق القبر رجل وبسط صحيفة بين يديه وراح يتلو نصا كأنما ينطق بحكم نشبت بعده معارك فى محيط البدو ومحيط الخواجات واشتد كل شيء وبلغ غايته: القتل والرقص والحب والموت والرعد والمطر. عندما نادوا على الشاويش أجابهم ما شأنكم فأجابوه ألم تر ما يحدث؟. ثم سألهم لماذا هم مجتمعون هنا ثم تراجع الى الخلف وسدد ناحيتهم بندقيته وأطلق النار بسرعة وإحكام فتساقطوا جثثا هامدة.


لمزيد من مقالات د. مصطفى جودة

رابط دائم: