رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

ميليشيات وأموال وإعلام وجيوش

الشرق الأوسط منطقة صراع ملتهبة، فيها من الصراعات المسلحة ما يزيد عدده على ما هو موجود فى أى إقليم آخر فى العالم، دولها الرئيسية فى حالة تنافس وصراع متواصل، وجيوشها هى الأكثر استيرادا للسلاح، لكنها لحسن الحظ نادرا ما تدخل فى مواجهات مباشرة فيما بينها.

تستخدم دول المنطقة أدوات عدة لإدارة الصراعات.الميليشيات هى الأداة الأكثر فعالية لتنفيذ السياسة الخارجية فى منطقتنا. الهويات العابرة للحدود، ومشتركات اللغة والدين والمذهب والطائفة تمنح لحكومات الفرصة لاختراق بلاد أخرى، وتجنيد أبنائها لتكوين ميليشيات موالية. ميليشيات إيران المذهبية المنتشرة فى عدة بلاد فى المنطقة هى أدوات شديدة الفعالية لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الإيرانية. أعطت الميليشيات لإيران السيطرة على أربع عواصم عربية، وهو ما تفاخر به وزير استخبارات إيرانى أسبق. استخدمت إيران الميليشيات لتنفيذ استعراض قوة واسع النطاق، امتد من جنوب البحر الأحمر حتى شرق المتوسط بمناسبة العدوان الإسرائيلى على غزة. الميليشيات تسيطر على أجهزة الحكم وتدخل فى معارك عسكرية بالوكالة عن إيران. حروب الميليشيات تمنح إيران وضعية ممتازة فريدة، فهى طرف فى كل حروب المنطقة، دون أن تتورط ولا فى حرب واحدة منها، فتفوز بالعوائد التى يحصل عليها المقاتلون، دون مخاطرة الدخول بشكل مباشر فى حرب ضد جيوش قوية. تحارب إيران فى أنحاء كثيرة من الشرق الأوسط، رغم أن جيشها لم يدخل حربا واحدة منذ انتهت الحرب ضد العراق عام 1988. للميليشيات تكلفة مالية، لكنها بالتأكيد أقل بكثير من تكلفة الحروب المباشرة.

مليشيات إيران المذهبية هى الطبعة الأحدث فى سلسلة ضمت أجيالا سابقة من الميليشيات الوكيلة. باستثناء منظمات المقاومة الفلسطينية الكبرى، فتح والجبهة الشعبية والديمقراطية وحماس، فإن كثيرا من المنظمات الفلسطينية كانت ميليشيات وأذرعا تابعة لحكومات عربية، تستخدمها فى التلاعب بالورقة الفلسطينية شديدة الأهمية فى سياسات المنطقة. كانت هناك ميليشيات تابعة لسوريا والعراق وليبيا، وميليشيات أخرى تقدم خدماتها لمن يدفع. أثناء الحرب الأهلية اللبنانية كانت هناك ميليشيات ممولة من بلاد شرق أوسطية عدة. اجتماع المذهبية والأيديولوجيا الراديكالية والمال يمنح ميليشيات إيران ميزات تفوق كل ما تمتعت به الميليشيات فى الماضى.

المال هو أحد أدوات السياسة الخارجية وإدارة الصراعات فى كل مكان فى العالم، لكن توظيفه فى إدارة الصراعات فى منطقة الشرق الأوسط يزيد على مستوى استخدامه فى العلاقات الدولية فى مناطق العالم الأخرى. السبب فى ذلك منطقى وبسيط، فالمال هو المورد الأكثر توافرا لعدد من دول المنطقة. تستخدمه لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، دون التأثير على احتياجات المواطنين. فى العالم كثير من الدول الغنية، لكن فى الشرق الأوسط فقط يوجد كل هذا القدر من الفوائض المالية المتاحة للتوظيف فى السياسة الخارجية. فى الشرق الأوسط قدر كبير من العوز والتفاوت فى الثروة، بما يخلق طلبا كبيرا على الفوائض المالية المتاحة لمكافأة الحلفاء، واحتواء المعارضين، ومعاقبة الخصوم عبر حرمانهم من الفوز بنصيب من عائد الثروة. الاستخدام المكثف للمال فى سياسات الشرق الأوسط الإقليمية يرفع التكلفة المالية للسياسة الخارجية، ويجعل الأمر شديد الصعوبة على الدول المحرومة من الوفرة.

الإعلام العابر للحدود هو أداة شديدة الأهمية للسياسة الخارجية فى منطقتنا. حيث ينفق على الإعلام أكثر مما تنفق أى منطقة أخرى فى العالم. محطات تليفزيونية وصحف ومواقع إخبارية ووسائل ترفيه، وكتائب مؤثرين متفرغين كلها تستخدم فى خدمة توجهات السياسة الخارجية وجود اللغة العربية كوسيط للتواصل بين الناس فى العالم العربى يعظم من قيمة الإعلام العابر للحدود فى العالم العربي. الأمريكيون والروس والأتراك والإيرانيون والإنجليز والفرنسيون والصينيون كلهم أسسوا لأنفسهم منصات ناطقة بالعربية تخدم سياساتهم فى المنطقة. حكومات الشرق الأوسط غير العربية تحمى شعوبها وراء حاجز اللغة من فيض الإعلام العابر للحدود، فيما تبقى الشعوب الناطقة بالعربية مجالا مفتوحا سهل الاختراق. يمكن لتركيا وإيران الوصول إلى شعوب المنطقة، فيما يصعب على الدول العربية الوصول إلى الداخل الإيرانى أو التركى. غير أن أكثر المنصات تأثيرا هى تلك الموجهة من بلاد عربية إلى عموم الجمهور الناطق بالعربية أيضا. قدمت صوت العرب المصرية أول التطبيقات الناجحة للاختراق بالإعلام فى العلاقات بين الدول العربية. بهت وهج النموذج الناصرى بعد حرب يونيو. وصل التليفزيون الفضائى، وأصبحت التقنيات أكثر تقدما وكلفة، فبرعت فى استخدامها الحكومات صاحبة الملاءة المالية.

فى الشرق الأوسط جيوش مدججة بالسلاح، وفى المنطقة صراعات مسلحة أكثر مما هو موجود فى أى إقليم آخر، ومع هذا فإن جيوش المنطقة، غالبا، تقف عند حدود الصراعات، تلوح بالقوة لكن لا تتورط فى استخدامها بشكل مباشر. حروب الشرق الأوسط هى حروب ميليشيات، أو حروب نظامية ضد ميليشيات، أما جيوش الدول فنادرا ما تواجه بعضها البعض. صراعات الشرق الأوسط الكثيرة تخاض بالمال والميليشيات والدعاية وأنشطة المخابرات، وهو مستوى من العنف يستنزف المنطقة ويمنع تقدمها، لكنها اعتادت عليه، خاصة أنه أقل شرا من صدامات الجيوش النظامية الكبرى. أخطر ما فى التطورات الأخيرة فى منطقتنا هو أن التلويح بالصدام بين الجيوش أصبح أكثر تواترا، بما يشير إلى دخول صراعات المنطقة فى مرحلة جديدة عالية الخطورة.


لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد

رابط دائم: