رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

السياسة الخارجية المصرية فى إقليم مضطرب

السياسة الخارجية لأى دولة هى عملية تحكمها مفاهيم محددة، وأهداف بعينها، وهى عملية أيضا تخضع لحجم الموارد السياسية والمالية المتاحة لصانع القرار، الأمر الذى يعنى أنها تخضع لترتيب محدد للأولويات، وفقا لما هو متاح من موارد، ووفقا لطبيعة اللحظة السياسية القائمة، الأمر الذى يعنى بدوره تغير أدوات تنفيذ السياسة الخارجية من مرحلة إلى أخرى.

يصدق ذلك على السياسة الخارجية لأى دولة، لكنه لا يعنى بالضرورة سهولة وصف أو فهم السياسة الخارجية لكل دولة؛ ففى بعض الحالات يكون من الصعب فهم السياسة الخارجية لدولة ما دون إدخال بعض المتغيرات أو العوامل الإضافية، ويصعب إخضاعها للعديد من المفاهيم أو الأطر النظرية المفسرة لهذه السياسة وذلك رغم توافر العديد من المظاهر والمؤشرات التى تجعل بعض هذه المفاهيم أو الأطر هى الأمثل لفهم السياسة الخارجية لدولة ما. يصدق ذلك على حالة السياسة الخارجية المصرية تجاه محيطها الإقليمى، والتى لا يمكن فهمها دون الأخذ فى الاعتبار مجموعة من المحددات المهمة.

إحدى السمات المهمة للسياسة الخارجية للدولة أنها ترتكز إلى مفهوم مركزى، يحدد أهدافها وأدواتها وضوابط حركتها الخارجية. من ذلك، على سبيل المثال، استناد السياسة الخارجية لعدد كبير من الدول إلى مفهوم «عدم الانحياز»، وهو المفهوم الذى حكم علاقات هذه الدول ــ ومنها مصر ــ خلال مرحلة الحرب الباردة بالقوى الكبرى وصراعاتها المباشرة أو غير المباشرة. من ذلك أيضا استناد السياسة الخارجية الأمريكية إلى «مبدأ مونرو»، الذى أعلنه الرئيس الأمريكى جيمس مونرو فى ديسمبر 1823، والذى حكم علاقة الولايات المتحدة بدول الأميركتين؛ ومن ثم علاقة الولايات المتحدة بالقوى الاستعمارية الأوروبية آنذاك. كذلك، استناد السياسة الخارجية الألمانية خلال الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية إلى مفهوم «المجال الحيوى».

بناء المفهوم الحاكم للسياسة الخارجية للدولة ليس عملية بسيطة، فهو عملية تخضع لحسابات وتقديرات مركبة ومعقدة، تشمل طبيعة النظام الدولى، وطبيعة السياسات الدولية الرئيسية، وحالة الإقليم المحيط، وطبيعة العلاقة مع قوى الإقليم، وأنماط التهديدات الرئيسية للأمن القومى للدولة، وحجم الموارد السياسية والمالية المتاحة، وطبيعة القيادة السياسية والنخبة الوطنية المسئولة عن صناعة السياسة الخارجية… إلخ. وليس من الضرورى أن يكون هناك مفهوم واحد يحكم السياسة الخارجية لدولة ما؛ فقد تكون هناك مجموعة من المفاهيم المتناغمة معا.

فى حالة مصر هناك مجموعة من المبادئ الأساسية التى حكمت سياستها الخارجية تجاه إقليم الشرق الأوسط منذ عام 2014، أهمها «الانخراط المحسوب»؛ ففى مقابل مبدأ «الانعزال» أو «الكمون الاستراتيجى»، التزمت مصر سياسة يمكن وصفها بـ«الانخراط المحسوب» أو «الانخراط الحذر»، ويعنى ذلك أن مصر مارست نوعا من «الانخراط» بالإقليم عندما كان ذلك مطلوبا وضروريا لأسباب تتعلق بحماية الأمن القومى المصرى، أو لأسباب تتعلق بمحاولة الحفاظ على استقرار وأمن الإقليم، بينما مارست نوعا من «الانعزال» أو «الكمون» عندما كان ذلك ضروريا أيضا للحفاظ على هذا الاستقرار.

سياسة «الانخراط المحسوب» أو «الحذر» فى الحالة المصرية هى سياسة تحكمها ضوابط محددة. أولها، أولوية حماية الأمن القومى المصرى، الأمر الذى يعنى أن درجة حدة/ عنف الأدوات المستخدمة فى تنفيذ هذا «الانخراط» تتنوع حسب مستوى وحجم تهديد الأمن القومى المصرى؛ فكلما زادت مخاطر هذا التهديد وكانت أكثر وضوحا، زادت حدة و«خشونة» هذا «الانخراط» وصولا إلى الاستخدام الفعلى للقوة (نموذج استخدام القوة العسكرية خارج الأراضى المصرية فى عامى 2015، 2017). ثانيها، أنها تظل «سياسة أخلاقية»، بمعنى أنها تظل محكومة بمجموعة من المبادئ، أهمها عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى، واحترام مبدأ السيادة؛ والحفاظ على أمن واستقرار الإقليم؛ فحتى عندما استخدمت مصر القوة العسكرية خارج أراضيها تم ذلك بالتنسيق، والتشارك، مع الدولة الجارة، بل وبما يخدم أمنها القومى (تدمير تنظيمات إرهابية تعمل على أراضيها). ثالثها، ممارسة ما يوصف بـ«الصبر الاستراتيجى»، بما يعنيه ذلك من إمكانية ممارسة أقصى درجات ضبط النفس فى مواجهة سلوكيات سلبية لفاعلين إقليميين، والمراهنة فى المقابل على اتجاه هؤلاء الفاعلين إلى ممارسة نوع من «المراجعة الذاتية». مثل هذه السياسة قد تخلق أعباء سياسية ودبلوماسية، لكنها تمثل فى بعض الحالات السياسة الأمثل فى التعامل مع بعض الفاعلين على المدى الأبعد تحت شروط معينة. وقد نجحت مصر فى تطبيق هذه السياسة بفعالية إزاء عدد من الفاعلين خلال العقد الأخير، وجاءت بنتائج مهمة.

الطابع الأخلاقى للسياسة الخارجية المصرية يجعل من الصعب إخضاعها لبعض الأطر والمفاهيم التقليدية فى أدبيات السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، وذلك رغم توافر بعض مظاهر ومؤشرات هذه المفاهيم فى بعض سلوكيات السياسة الخارجية المصرية تجاه الإقليم. من ذلك على سبيل المثال مفهوم «المجال الحيوى»، وهو المفهوم الذى طوره عالم الجغرافيا الألمانى فريدريك رتزل فى نهاية القرن التاسع عشر فى كتابه الشهير «الجغرافيا السياسية»، ثم مقالته التى حملت عنوان «المجال الحيوي» فى عام 1901. ويقوم المفهوم على أن المجتمع الذى يتكيف بنجاح مع منطقة جغرافية معينة من شأنه أن يوسع بشكل طبيعى ومنطقى حدود أمته إلى منطقة أخرى، ما يؤسس للدولة الحق فى التمدد والتوسع الخارجى كاستجابة طبيعية لفائض النمو والقوة أو للتعامل مع تحديات محددة. وقد مثل هذا المفهوم أساسا للتوسع الاستعمارى الألمانى خلال الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، من أجل إنشاء إمبراطورية استعمارية، وكجزء من حل مشكلة النمو السكانى داخل ألمانيا فى هذه المرحلة.

قد ينظر البعض إلى بروتكول التعاون العسكرى بين مصر ودولة الصومال، والذى يسمح بإرسال قوات مصرية إليها، على أنه مثال لتطبيق مصر لمفهوم «المجال الحيوى» بالمعنى الذى صاغه فريدريك رتزل، لكن فى الواقع هناك فروق جوهرية بين الحالتين؛ إذ لا يعبر هذا البروتوكول بحال من الأحوال عن توسيع مصر لمجالها الحيوى وفق مفهوم فريدريك رتزل، بقدر ما يعبر، من ناحية، عن التزام مصر بحماية أمنها القومى المباشر، بالنظر إلى ارتباط الأمن القومى المصرى بأمن منطقة القرن الإفريقى الذى يمثل مدخلا رئيسيا للبحر الأحمر. كما يعبر من ناحية أخرى عن التزام مصر بدعم دولة عربية شقيقة فى مواجهة تهديدات شديدة الخطورة. ليست هذه هى المرة الأولى التى تنخرط فيها الدولة المصرية لدعم دولة عربية شقيقة، فقد مثلت مصر فاعلا رئيسيا فى التحالف الدولى لتحرير دولة الكويت فى عام 1991، وهو دعم مرتبط بالأساس بالالتزام بسيادة الصومال وعدم التدخل فى شئونها الداخلية.

خلاصة القول إن السياسة الخارجية المصرية تمثل نموذجا للسياسات الخارجية التى لا يمكن فهمها بمعزل عن حزمة من الاعتبارات التى لا تتوفر فى السياسات الخارجية التقليدية، كما يصعب إخضاعها لبعض المفاهيم التقليدية.

***

بناء المفهوم الحاكم للسياسة الخارجية للدولة ليس عملية بسيطة، فهو عملية تخضع لحسابات وتقديرات مركبة ومعقدة، تشمل طبيعة النظام الدولى، وطبيعة السياسات الدولية الرئيسية، وحالة الإقليم المحيط، وطبيعة العلاقة مع قوى الإقليم، وأنماط التهديدات الرئيسية للأمن القومى للدولة.

[email protected]
لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات

رابط دائم: