رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

الحروب لا تحقق دائما أهدافها

ناقشت فى مقالى السابق خطورة الحديث عن حرب عالمية ثالثة، انطلاقا من فرضية مفادها أن استحضار مثل هذا النوع من النبوءات قد يسهم فى تحقيقها، وأن تكاليف مثل هذا السيناريو ستكون مختلفة جوهريا عن تكاليف الحربين العالميتين الأولى والثانية لأسباب تتعلق بالتقدم الضخم فى وسائل التدمير، وانطلاقا من افتراض آخر أنه عند لحظة ما سيكون من الصعب، وربما من المستحيل، منع هذا السيناريو، ومازال أمام العالم فرصة كبيرة لإزاحته. انطلاقا من قناعة قوية بهذا الافتراض، لابد من مراجعة سياسية وأكاديمية، وتقييم تاريخى لقائمة الحروب الدولية، والحروب الإقليمية التى تورطت فيها قوى دولية أو التى جرت بالوكالة فيما بينها، استنادا إلى سؤال رئيسي: هل نجحت هذه الحروب فى تحقيق أهدافها على المدى البعيد؟ وهل تناسبت تكاليف هذه الحروب مع ما حققته من أهداف؟

بدءا من الحرب العالمية الثانية حتى اليوم، شهد العالم عددا كبيرا من الحروب بهدف تحقيق أهداف محددة. ويمكن هنا حصر الحروب الأبرز فى العالم فى الحرب الكورية ــ الكورية (1950 1953-)، حرب الاستقلال الجزائرية (1954 1962-)، الحروب الهندية ــ الباكستانية (1965، 1971-)، الحروب المصرية ــ الإسرائيلية (1967، 1973)، حرب استقلال بنجلادش (1971)، الحرب السوفيتية على أفغانستان (1979-1989)، الحرب العراقية ــ الإيرانية (-1980 1988)، حرب تحرير الكويت (1990-1991)، حرب البوسنة (1992-1995)، الحرب الدولية ضد طالبان أفغانستان (2001-2021، جزء من الحرب على الإرهاب)، الحرب الأمريكية ــ البريطانية على العراق (2003-2011)، الحرب الأمريكية ــ الغربية على الإرهاب (2001 حتى الآن)، الحرب الروسية ــ الأوكرانية (2022 حتى الآن)، الحروب الإسرائيلية المتتالية على قطاع غزة.

إذا استبعدنا الحروب الخاصة بالتحرر الوطنى أو تحرير أراضٍ محتلة وهى حروب مشروعة، يمكن أن نخلص إلى استنتاج مفاده أن معظم هذه الحروب بدءا من الحرب العالمية الثانية، سواء الحروب الدولية، أو الإقليمية، أو تلك التى شاركت فيها قوى دولية كأطراف مباشرة أو غير مباشرة، لم تحقق أهدافها على المدى البعيد، بل ربما على المديين القصير والمتوسط. الحرب العالمية الأولى كان أحد أهدافها الرئيسية كبح جماح دول المحور (اليابان، ألمانيا، إيطاليا)، لكن هذا لم يحدث بشكل كامل. لقد نجحت الحرب فى تكبيل اليابان من خلال نص المادة التاسعة من الدستور اليابانى الذى صاغته سلطة الاحتلال الأمريكى لليابان آنذاك بقيادة الجنرال ماك آرثر فى فبراير 1946. على العكس، نجحت اليابان خلال أقل من خمسة عقود فى دفع أعداء الأمس إلى تشجيع اليابان على إعادة النظر فى دورها العالمي، والتحول تدريجيا من حالة الانكفاء على الداخل خلال النصف الثانى من القرن العشرين، إلى القيام بدور أمنى عالمي، بعد مرحلة من نهج ما عُرف بـ«دبلوماسية دفتر الشيكات»، اعتمادا على تيار اليمين الذى دشنه رئيس الوزراء الأسبق شينزو آبي، ومازالت العقبة أمام تغيير المادة التاسعة من الدستور هو التيار الداخلى الرافض لهذه المراجعة الدستورية، إذ تحولت الولايات المتحدة (عدو الأمس) إلى أكبر داعم لدور أمنى عالمى لليابان يتجاور محيطها الإقليمى المباشر، ويتجاوز التعامل مع التهديدات الأمنية المباشرة للأمن القومى الياباني. كذلك، لم تنجح الحرب الكورية- الكورية (التى جرت بالوكالة) فى تحقيق الاستقرار فى شبه الجزيرة الكورية أو شمال شرقى آسيا، ولم تنجح إستراتيجية تقسيم شبه الجزيرة الكورية أو مظلة الدفاع الأمريكية لحليفيها فى المنطقة (كوريا الجنوبية واليابان) فى ردع نظام بيونج يانج أو ثنيه عن تطوير قدراته العسكرية النووية والصاروخية.

الأمر نفسه، فيما يتعلق بالغزو السوفيتى لأفغانستان الذى دام عشر سنوات متتالية، ولم ينجح فى تحقيق الهدف منه، مما اضطر الاتحاد السوفيتى فى النهاية إلى الانسحاب. كذلك الحرب العراقية- الإيرانية؛ فرغم الخسائر العسكرية والاقتصادية والبشرية الضخمة التى دفعها الطرفان جراء هذه الحرب، فقد قررا وبشكل مفاجئ إنهاء الحرب، ثم تحول نمط العلاقات بين البلدين إلى اتجاه مغاير خلال سنوات معدودة كجزء من تداعيات الغزو الأمريكى للعراق فى عام 2003.

الأمر ذاته يصدق على سلسلة الحروب التى دشنتها الولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر 2001 تحت عنوان «الحرب على الإرهاب»، بدءا من الحرب الأمريكية على أفغانستان، ثم غزو العراق، ثم العمليات العسكرية المتفرقة على تنظيمى القاعدة وداعش وفروعهما الإقليمية فى دول عدة. جرت هذه الحروب استنادا لدعاوى عدة، أهمها القضاء على التنظيمات الإرهابية، وإصلاح «الدول الفاشلة» ووضعها من جديد على مسار «الدول الطبيعية» (غزو أفغانستان)، ونشر الديمقراطية عبر المحاكاة و«نظرية الدومينو» (غزو العراق). لكن أيا من هذه الحروب لم تحقق أهدافها، وأثبتت فشلا كبيرا؛ فلا الغزو الأمريكى والعمليات العسكرية الضخمة فى أفغانستان خلال عقدين متتاليين (-2001 2021) أو الغزو الأمريكى للعراق (2001-2003)، ساهما فى القضاء على تنظيمى طالبان والقاعدة، ولا ساهما فى بناء ديمقراطيات مستقرة يمكن محاكاتها خارج الدولتين، ولا ساهما حتى فى بناء أنظمة داخلية مستقرة حليفة للولايات المتحدة فى أى منهما، بل انتهى الأمر إلى تعميق وتوسيع حالة العداء ضد الولايات المتحدة.

الحروب السابقة تبدو أنها حققت أهدافها على المدى القصير، لكن تقييما لها على المديين المتوسط والبعيد ينتهى إلى نتائج مغايرة على نحو ما سبق توضيحه؛ فبالإضافة إلى التكاليف البشرية والاقتصادية الضخمة التى دفعتها المجتمعات الإنسانية بسببها، والأضرار التى لافتا بالأمن العالمي، فإن ما يجب أن يكون لافتا للسياسيين والأكاديميين أن هذه الحروب ربما تكون قد عدلت موازين القوى فترة محددة، أو حجمت من أدوار قوى بعينها، أو حجمت بعض مصادر التهديد، لكن خلال فترات ليست بعيدة، تراوحت بين سنوات وبضعة عقود قليلة، تحولت موازين القوى من جديد، أو ظهرت أنماط من التهديد أكثر خطورة.. إلخ.

نجاح الحروب فى تحقيق أهدافها على المدى البعيد يقتضى توافر عدد من الشروط؛ أولها عدالة ومشروعية القضية الرئيسية للحرب، ومدى التزامها بالقواعد المنظمة للحروب (القانون الدولى والقانونى الدولى الإنساني)، وعدم انحرافها عن هدفها الأساسي. لقد توسعت القوى الكبرى فى اللجوء إلى الحرب، أو التدخل فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، ليس كوسيلة نهائية لتسوية الصراعات، ولكن كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية. بل إنها طرحت أهدافا ومبررات زائفة لشن هذه الحروب، اتضح فيما بعد زيف هذه المبررات، وهو ما كشفه الرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش، ووزير الخارجية الأمريكى الأسبق كولن باول، بشأن غزو العراق فى عام 2003. مثل هذه الاعترافات اللاحقة بالأخطاء الإستراتيجية لا تجدى ولا يمكنها تصحيح أو تعويض الأخطاء الجسيمة التى وقعت فى حق الدول والشعوب.

الأمر لا يتطلب فقط مراجعة أخلاقية لاحقة، لكنه يتطلب مراجعات سياسية وإستراتيجية مبنية على جدوى الحرب كوسيلة لإدارة الصراعات أو حتى كوسيلة لفرض موازين قوى على المدى البعيد. مثل هذا الطرح يبدو مثاليا لكنه بات ضرورة واقعية. الإشكال أن بعض هذه الحروب استندت إلى أطروحات ورؤى أكاديمية، وذلك هو الأخطر، الأمر الذى يعنى أن مراجعة حقيقية لجدوى الحروب يجب أن تكون أكاديمية وسياسية فى الوقت نفسه.

 

إذا استبعدنا الحروب الخاصة بالتحرر الوطنى أو تحرير أراضٍ محتلة وهى حروب مشروعة، يمكن أن نخلص إلى استنتاج مفاده أن معظم هذه الحروب بدءا من الحرب العالمية الثانية، سواء الحروب الدولية، أو الإقليمية، أو تلك التى شاركت فيها قوى دولية كأطراف مباشرة أو غير مباشرة، لم تحقق أهدافها على المدى البعيد

[email protected]
لمزيد من مقالات د محمد فايز فرحات

رابط دائم: