عاد من رحلة عمل غيبته عن البيت أسبوعين. عندما دخل المنزل، كان كل واحد من أفراد الأسرة مشغولاً بهاتفه أو حاسبه المحمول.. وبعد دقائق رفع أحدهم رأسه ليقول للأب : «هو حضرتك وصلت؟»!
رسم ابتسامة على وجه تغطى شعوره بالخيبة، وهو يصافح أبناءه، وفى داخله إحساس عميق بفقدان شيء ما.
دهمته ذكريات الطفولة عند عودة والده من السفر وكيف كان الشوق يقفز من عيونه هو وإخوته ووالدته فضلا عن ترقب الوصول عند الباب والشباك. وطقوس شاى العصاري، ثم اجتماع الأسرة وقت بث المسلسل العربي.
قرر أن يراقب الوضع عن كثب، وتخلى قليلا عن مشاغله، ليتابع مجريات الأمور فى بيته. اقترب من ابنه الكبير وسأله عن أحواله فى الدراسة، فأجاب بكلمة يتيمة وعيناه مثبتتان على شاشة الهاتف:
ـ تمام
ثم انصرف إلى مكتبه.
فترات طويلة كانت الزوجة تشاركه الخوف على صحة الأولاد من الانكفاء كثيرا أمام هذه الشاشات الذكية، وكان صوتها يجلجل بالتهديد والوعيد لهم بالحرمان من الهاتف أو الكمبيوتر، ولكن رويداً رويداً بدأ هذا الصوت يخفت، ثم اختفى بعد أن انكفأت هى أيضا على هتافها الذكي، وبدأت تظهر فى مفرداتها اليومية كلمات أجنبية مثل: «لايك وشير وشات»!
وأصبحت الصيحات تخرج فى اتجاه معاكس من الأبناء مناشدين أمهم أن تقتطع جزءا من وقت «الفيسبوك» لإعداد الطعام الذى أمسى يأتى متأخرا عن موعده المعتاد.
فى اليوم التالى لم يذهب إلى عمله وأرسل خطابا لمديره، طالبا إجازة أسبوعا ليبقى فى البيت يراقب هذه الكائنات الصامتة. جلس فى الصالة يحتسى قهوته ويقرأ صحيفة الصباح، بينما كانت زوجته فى المقعد المقابل مشغولة بهاتفها المحمول. مرت فترة طويلة بدون كلام، ثم بدأت تنتشر فى البيت رائحة طعام محروق، فهرعت إلى المطبخ وهى تلعن الأوانى الحديثة التى تحرق الطعام قبل أن تنضجه.
ورويدا أصبحت هذه الرائحة الخانقة جزءا من الطقس اليومى بعد أن فشل «شفاط» المطبخ فى السيطرة عليها، وصارت رائحة المحروقات العضوية كالأرز واللحمة والخضراوات تحل محل البخور الذى كانت تطلقه والدته داخل البيت خلال سنوات صباه.
مر أمامه ابنه الصغير، مطأطئا رأسه إلى أسفل ممسكا بيديه الاثنتين هاتفه المحمول مركزا عينيه فى شاشته بينما يتدلى من أذنيه سلك أبيض موصول بالهاتف. نادى عليه فلم يرد.
قالت زوجته، فى محاولة لامتصاص غضبه المكتوم: سماعات الهاتف حالت دون سماعك.
لم يعد يسمع كلاما داخل البيت، إلا مرة واحدة عندما خرج ابنه الكبير من غرفته زاعقا بصوت وموجها أصبع السبابة اليمنى صوب أخته:
ـ طلبت الشاى فى رسالة على الواتس اب ولم تحضريه.
قالت ـ الهاتف مغلق.
طلب من ابنته أن تحضر كتابا تركه على سطح مكتبه، هزت رأسها وعيناها لم تفارقا شاشة الهاتف المحمول، وبعد برهة عادت وفى يدها كوب ماء.
سألها: أين الكتاب؟
أجابت فى اندهاش: «كتاب.. كتاب أيه». ضرب الأب كفا بكف وحوقل وانتفض من مقعده وهم قاصدا مكتبه مهمهما بكلمات غير مسموعة.
حينما حل موعد الغداء لاحظ أن اثنين فقط حضرا: زوجته وابنته، أما الأولاد الثلاثة فيتناولون طعامهم فى غرفتهم برفقة حواسبهم وهواتفهم المحمولة.
توقف لقاء الأسرة المسائى على الطعام وحتى المسلسلات التليفزيونية لم تعد تجمعهم، إذ بات بإمكانهم مشاهدتها على اليوتيوب.
بعد أن فشلت كل المحاولات لجمعهم فى مكان واحد، وعملا بوصية التفكير خارج الصندوق، اهتدى إلى طريقة جديدة لجمع الأولاد بأقصى سرعة وهى فصل «روتر» الإنترنت، فعندها يأتون من كل فج عميق وكأن زلزالا قد حدث ! ولكن سرعان ما اكتشفوا اللعبة وصاروا يحضرون لإعادة الـ«روتر» ثم يعودون إلى شاشاتهم سالمين!
فى اليوم الثالث بعد أن فرغ من قراءة صحيفته واستمع إلى نشرات الأخبار بمفرده فى صالة المنزل، لم يكن أمامه إلا اللجوء إلى شبكات التواصل الاجتماعي.
كتب على حسابه فى الفيسبوك: «الأجهزة الذكية حولت الأبناء إلى كائنات غبية!»
أدرك أن أولاده سيفهمون رسائله أكثر، إذا أرسلها بشكل رقمي، ومنذ ذلك الوقت أصبح يخاطب أولاده عبر «واتساب»، أما زوجته فكانت أول من استجاب إلى نداء أنصار حماية البيئة ودعوتهم إلى «العمل بلا أوراق» فتوقفت عن تقديم ورقة طلبات البيت التى كانت تكتبها أسبوعيا وأصبحت ترسلها إلكترونيا يوميا كـ«مسجات» على حساب الزوج فى «واتساب». هذه السنة الحميدة اتبعها الأولاد أيضا. وأصبحت إشعارات الرسائل تدهمه طوال الوقت: بابا المصروف.. بابا فلوس الدرس.. بابا عايزة شوز.. بابا حاعدى أذاكر مع صاحبي.. الطلبات يا حاج.. زود جبن رومى وبيض.. وكمان عيش....بابا هات...
اتجه إلى الفيسبوك ليجد نقاشا حامى الوطيس يشترك فيه 20 صديقا إلكترونيا حول هدف لم يحتسب فى مباراة كرة القدم بين «الشياطين الحمر» و«الماكينات»! .. زكمته
رائحة المحروقات العضوية التى تنبعث من المطبخ، وضاق صدره بصوت إشعارات الرسائل الإلكترونية على الهاتف، فقام بإلغاء كل حساباته على شبكات التواصل الاجتماعي. وبدأ يبحث عن أصدقاء حقيقيين على المقهي!
د. مــحــمــد يــونـــس
رابط دائم: