رئيس مجلس الادارة

د. محمد فايز فرحات

رئيس التحرير

ماجد منير

رئيس التحرير

ماجد منير

العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة

العملة الرخيصة تطرد العملة الغالية من التداول. هذا هو ما لاحظه أهل العلم منذ عدة قرون.قديما تداول الناس نقودا مصنوعة من معادن، بعضها نفيس كالذهب، وبعضها غير نفيس مثل النحاس، وكانوا يفضلون تداول وإنفاق العملات النحاسية، بينما يكتنزون العملات الذهبية لأن قيمتها مضمونة عبر الزمن. حتى عندما كانت النقود كلها مصنوعة من الذهب، ولكن بعضها يحمل كمية من المعدن النفيس أقل من الأخرى، فإن الناس كانوا يكتنزون العملة الجيدة العالية القيمة، بينما يتداولون العملة الرديئة المنخفضة القيمة. مازال هذا القانون يعمل بفاعلية حتى بعد أن توقفنا عن استخدام العملات المعدنية، ففى البلاد التى تعانى عملاتها عدم الاستقرار، يميل الناس لإنفاق مالديهم من العملة المحلية أولا، بينما يكتنزون العملات الأجنبية الأكثر استقرار، لأن قيمتها تزيد مع الوقت.

الأصل فى الاقتصاد والمجتمع هو أن البقاء للأفضل، وأن الأجود من المنتجات والخدمات يطرد الردىء منها من التداول.فالبشر كائنات عقلانية يحرصون على مصلحتهم، يفضلون الجودة على الرداءة، لهذا تتقدم المجتمعات الإنسانية، وتزدهر الحضارة.

غير أن بعض المجتمعات تتقدم بينما بعضها الآخر يبقى على حاله، أو حتى يتراجع. الفارق بين النوعين من المجتمعات هو أن العملة الرديئة، وكل الأشياء الرديئة، فى المجتمعات المتقدمة، لا تستطيع طرد العملات والأشخاص والمنتجات والأفكار الجيدة، فيكون البقاء دائما للأجود والأفضل. على العكس من ذلك فى المجتمعات المتخلفة المتراجعة، فإن الأشياء الجيدة عادة ما تتعرض للهزيمة، ويتم إخراجها من التداول، فتكون الغلبة للردىء من الأشياء،وتنغرس المجتمعات المتخلفة فى تخلفها أكثر وأكثر.

هل الناس فى المجتمعات المتخلفة المتراجعة غير عقلانيين، يستمتعون بدفع أسعار أعلى، ويفضلون الأشياء الرديئة على الأشياء الجيدة؟ يصعب تصور وجود هذا الإنسان غير العقلانى، الذى يواصل إلحاق الخسارة بنفسه طوال الوقت. لكن توجد ظروف تدفع الناس للتصرف بطريقة تضر بهم وبمجتمعهم. فالناس لا يتصرفون فى فراغ، وإنما فى إطار من المؤسسات والقوانين التى تزين لهم التصرف بطريقة ضارة، تجعلها تبدو عقلانية ومفيدة بطريقة مخادعة.

الردىء من الأشياء يطرد الجيد منها. هذا قانون عام وشامل، لا يسرى على النقود فقط، لكنه يسرى على كثير من مجالات الحياة، وهو ما يهدد بتدهور متواصل فى جودة الحياة، مالم تتدخل الحكومة بالسياسات الملائمة وفى الوقت المناسب. التعليم الردىء فى بلادنا يطرد التعليم الجيد، فبدلا من الحصول على المعرفة أصبح السائد هو السعى وراء الشهادة. التعليم الردىء يمنح الخريجين شهادات بغير مضمون معرفى أو مهارى، أما التعليم الجيد فيركز على المعرفة والمهارات، ومعها تأتى الشهادات بشكل تلقائي. يميل الناس فى بلادنا للتركيز على الشهادات، ويحتجون ضد صعوبة الامتحانات وضد كل ما يزيد من صعوبة الحصول على الشهادة، حتى لو كانت غير مصحوبة بتعلم حقيقى. شيوع الغش فى الامتحانات، وتطور تقنياته مع التقدم التكنولوجى، والتواطؤ المجتمعى واسع النطاق لتسهيل الغش بين طلاب مدارس بأكملها بوسائل فاجرة، بدءا من استخدام مكبرات الصوت، وصولا إلى التهديد الصريح لأعضاء لجان المراقبة؛ كل هذا هو من أشكال التعليم الردىء الذى يطرد التعليم الجيد، فبالنسبة لعموم الناس لا يكون من العقلانى الاجتهاد فى الدراسة عندما يكون من الممكن الحصول على الشهادة بجهد أقل. حتى فى التعليم الجامعى تم اختصار الكتب إلى مذكرات، وقامت عصابات تجهيز الأبحاث والرسائل ببيع منتجاتها لطلاب يسعون وراء شهادات، بعضها شهادات عليا جدا، تتيح لحامليها ادعاء الجلوس على قمة هرم المعرفة فى مجالاتهم. تدخل الدولة هو الطريق الوحيد لحماية التعليم الجيد ضد توغل التعليم الردىء، وإلا واصل الأخير التوغل والتغول، دافعا مجتعنا أكثر وأكثر نحو القاع.

الدولة ودورها هى الفارق بين المجتمعات المتقدمة والمتخلفة. فالدولة فى المجتمعات المتقدمة توفر الظروف التى تهيئ للناس اختيار الأفضل، فيهجرون الردىء، للدولة دور أساسى لحماية الناس من غش العملات وتدهور العملة المحلية، فتقوم بتجريم التعامل بالعملات الزائفة، وتعمل على الحفاظ على قيمة العملة المحلية. لهذا تقوم الحكومة بدمغ الذهب وتعزيز قوة العملة المحلية عبر اتباع سياسات اقتصادية رشيدة. وعندما تتخلى الحكومة عن القيام بدورها هذا تدب الفوضى فى الأسواق، ويشيع الاحتيال وتضيع الحقوق.

المنافسة العادلة هى أحد أهم آليات الارتقاء بالسلع والخدمات، ومنع ردىء السلع من طرد الجيد منها. فى سوق المنافسة الحرة العادلة تتاح لأصحاب الابتكارات الدخول إلى حلبة المنافسة بغير قيود يفرضها الأقوياء وأصحاب المصلحة، فإذا نجحوا فى تقديم منتجات أفضل بتكلفة أقل، أمكن للسلعة الجيدة طرد العملة الرديئة من السوق. الأمر لا يحدث بهذه السهولة فى الحياة الواقعية، فباستثناء اقتصادات السوق الرأسمالية المتقدمة، تسود ممارسات احتكارية فاسدة فى كثيرمن الاقتصادات، فيتمتع بعض الأقوياء، أصحاب الثروات والصلات والنفوذ، بحماية خاصة، وتوضع العقبات أمام الناشئين أصحاب الأفكار والحلول المبتكرة، ويتم حرمان جمهور المستهلكين من منتجات أفضل بأسعار أقل كان من الممكن أن يقدمها هؤلاء، وتكون العملة الرديئة قد طردت العملة الجيدة مرة أخرى. يمكنك أن تجد أمثلة كثيرة ينطبق عليها هذا التحليل ليس فقط فى الاقتصاد والتعليم، إنما أيضا فى السياسة والرياضة والفن، وغيرها، والحل لكل هذا هو قيام الدولة بحماية العملة الجيدة، ومنع العملة الرديئة من إخراجها من التداول.


لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد

رابط دائم: